تحدّث الفقهاء المسلمون في الجهاد عن شرط المكنة والقدرة، والمقصود بهذا الشرط أنّه هل يعتبر في ثبوت وجوب الجهاد أن يكون المسلمون قادرين على مواجهة العدو أو مطمئنّين بالنصر أو ما شابه ذلك أم أنّ وجوب الجهاد غير مشروط بذلك كلّه؟ بل وقع الكلام في شرعيّة الجهاد على تقدير اليقين أو الظنّ القويّ بالهزيمة، فهل يكون الجهاد حراماً أو يبقى على الجواز على الأقلّ؟
ذكر الشهيد الثاني أنّ دفع الكفّار على تقدير بدئهم بالقتال مشروطٌ بالمكنة والقدرة على دفعهم وردّهم، بل نفى الشيخ النجفي في الجواهر الخلاف في شرط أخذ المكنة، معلّقاً على كلام المحقّق الحلّي في الشرائع ـ والذي يلوح منه أخذ القدرة في الجهاد حال ابتداء المسلمين بالحرب دون ابتداء الكافرين بها ـ أنّه لا يراد ذلك منه حتماً؛ إذ المكنة مأخوذة في الحالتين: الدفاع والابتداء. وهكذا تحدّثت المصادر الفقهيّة عن تربّص الإمام أو من نصبه مع قلّة المسلمين، وعدم الشروع في الحرب إلا بعد استكمال ما يوجب القوّة على الآخر.
وقد عقدت هذه المسألة في كلمات بعض الفقهاء مرتبطةً بمسألة الفرار من الزحف، على أساس أنه هل يجوز هذا الفرار في حالة إحراز خسارة المؤمنين أو ما شابه ذلك أم لا؟ وقالوا ـ على سبيل المثال ـ بأنّه لو انفرد شخصان من الأعداء أثناء الحرب بشخصٍ مسلم وجب عليه قتالهما، بينما لو انفرد به أربعة مثلاً لم يجب، وجاز له الفرار من الزحف؛ لفقدان المعيار الشرعي في توازن القوّة.
إلى غير ذلك من الموضوعات التي تطرّقوا إليها على هذا الصعيد.
والذي توصّلتُ إليه ـ في دروسي في فقه الجهاد ـ هو صحّة اشتراط القدرة على تحقيق الأهداف أو الغلبة، بدلالة النصوص الدينيّة على ذلك، وأنّ الجهاد ليس هدفاً نهائيّاً، بل هو وسيلة لتحقيق أهداف، فإذا كان المسلمون على يقينٍ أو اطمئنانٍ أو ظنٍّ غالبٍ موضوعي بأنّهم غير قادرين على المواجهة ولو بُذلت التضحيات الجسام، سَقَطَ وجوب الجهاد، بل سقطت شرعيّته، ما لم يطرأ عنوان ثانوي يفرض أو يجوّز الجهاد حتى مع الهزيمة. وهذا كلّه بلا فرقٍ بين الجهاد الابتدائي ـ لو قُلنا به ـ والدفاعي.
والمعيار الإسلامي والقرآني في تحديد إمكانات النصر، ليس هو المعيار المادّي والقدرات العسكريّة والعدديّة فقط، بل تؤخذ فيه المعايير المعنويّة والإيمانيّة ودورها في تحقيق النصر وصناعة المجاهد الذي يساوي عشرة من الخصوم أحياناً، كما لا ينظر الإسلام للنصر بوصفه نتيجة فوريّة، بل العبرة بتحقّقه ولو بعد حينٍ يكون معقولاً بالنظر العقلائي. وعليه فما يميل إليه بعضٌ من أنّ أيّ حديث عن الإمكانات هو تخاذلٌ أو جبن غيرُ صحيح، وما يميل إليه بعضٌ آخر من أخذ الحسابات المادية لوحدها معياراً؛ للتهويل وتخويف المؤمنين وتثبيط عزائمهم، غيرُ صحيحٍ أيضاً.
وهذا كلّه يعني أنّ المسلمين أو الجهات المخوّلة إدارة الدفاع عنهم، يلزمهم دراسة الموقف دراسةً كاملة بعيداً عن التثبيط والتخويف وبث الرعب والركون للدِّعَة والراحة، وبعيداً أيضاً عن العنتريّات والمثاليات والرومانسيّات والحماس المُردِي بأهله، وهنا يدرسون مختلف إمكاناتهم ومعقوليّة تحقيق النتائج في مدد منظورة معقولة بحسابات منطق الحرب والجهاد، فإذا غلب على الظنّ الموضوعي المكنة وجب الجهاد، حتى لو لزمت منه التضحيات بحدٍّ يوازي أهميّة الأهداف؛ إذ الجهاد معجونٌ بالتضحيات، وإلا وجبت المهادنة وانتظار الفرص اللاحقة للنهوض من جديد، فالمهادنة هنا لازمة أو جائزة، وهي لا تعني التخلّي عن القضيّة بل تحيّن الفرص المناسبة لها، فالله لا يكلّف الفرد ولا المجتمع ولا الأمّة ما لا يطيقون أو لا يقدرون عليه.
حيدر حبّ الله
الجمعة 11 ـ 3 ـ 2022م