موضوع سنّ اليأس للمرأة من الموضوعات المهمّة في الفقه والقانون الإسلامي، حيث تترتّب على تحديده وتعيينه نتائج فقهيّة متعدّدة تتعلّق بالمرأة في حياتها الفرديّة وسلوكها العبادي، وفي علاقاتها الزوجيّة، وفي قضايا العِدَد والطلاق، وغير ذلك مما هو مذكور في أبواب متفرّقة من الفقه الإسلامي.
المسألة المهمّة هنا هو في تحديد سنّ اليأس للمرأة، فالفقه الإسلامي ما دام قد رتّب نتائج على عنوان اليأس، فلابدّ من البحث في معيار تحديد هذا العنوان، وهذا ما دفعهم لدراسة هذا الموضوع، فلم يقتصر الفقهاء على عنوان اليأس نفسه، بل اعتبروا أن الشريعة تدخّلت في تحديد السنّ الذي تكون فيه المرأة يائسة بحيث ما تراه من دمٍ بعد هذا السنّ فهو استحاضة أو يتطلّب الاحتياط مثلاً أو غير ذلك، وما تراه قبل ذلك فهو حيض ضمن المعايير الواردة في كتاب الحيض، وهكذا.
ولسنا نريد أن نتحدّث هنا عن التمييز في سنّ اليأس بين القرشيّة والنبطيّة وغيرهما، أو بين العربيّة والعجميّة كما هو موجود تارةً في الفقه الإمامي، وأخرى في بعض مدارس الفقه السنّي، فقد تحدّثنا عن هذا الموضوع سابقاً، وقلنا بعدم ثبوت هذه التمايزات التي ذكرها بعض الفقهاء. إنّما الحديث هنا عن أصل القضيّة، فما هو سنّ اليأس؟ وما المرجع في تحديده؟
انقسم فقهاء الإماميّة هنا في الأعمّ الأغلب إلى فريقين (بعيداً عن نظريّات التمييز بين القرشيّة والنبطيّة والعربيّة وغيرها)، ففيما قال الفريق الأوّل بأنّ سنّ اليأس خمسون سنة قمريّة، فإذا بلغتها المرأة صارت يائسة وتترتّب عليها تمام الأحكام التي تلحق اليائسة، ذهب الفريق الثاني من الفقهاء إلى أنّ اليأسَ يكون ببلوغ ستين سنة، وهذه الأرقام نتجت في العادة عن كيفيّة تعاملهم مع الروايات الواردة في الموضوع، رغم قلّة عدد الروايات الواردة في تحديد السنّ جدّاً مع كون الموضوع شديد الابتلاء!
لكنّ رأياً مخالفاً للمشهور ذهب إلى أنّ سنّ اليأس شأنٌ تكوينيٌّ ليس له عمر معيّن، ويختلف باختلاف النساء. ومن العلماء الذين رأيتُ لهم فتوى بهذا الرأي: السيد محمّد جواد الموسوي الغروي الإصفهاني، والشيخ محمّد إبراهيم الجنّاتي، والشيخ محمّد اليعقوبي، والسيد محمد تقي المدرسي، وغيرهم.
وسوف نشير لأبرز آراء الفقه السنّي قريباً، فانتظر.
والذي توصّلتُ إليه ـ بعد دراسة متكرّرة للموضوع ـ أنّ سنّ اليأس في الشريعة الإسلامي عنوانٌ واقعي غير تعبّدي، وهو السنّ الذي تصبح فيه المرأة يائسةً تماماً من الحيض يأساً ناتجاً عن الحالة الطبيعيّة الجسديّة، فينعدم عندها احتمال الحيض بحيث لم تعد ترجوه (وكلامنا ليس في المستَرَابَة كما هو واضح). وهذا العنوان قد يختلف باختلاف النساء من حيث الجينات وطبيعة البدن والمناطق الجغرافيّة والمناخيّة، فإذا أحرزت المرأة أنّها يئست من المحيض ترتّبت عليها أحكام اليائس ولو كان عمرها دون الخمسين، وإذا ظلّت ترى الدم كما كانت تراه من قبل وكانت النسوة مثلها تشبهها في حالتها مثل قريباتها مثلاً، أو ثبت بالفحص أو الكشف المخبري أو العلمي أنّه حيض، فإنّها لا تكون يائسةً ولو تجاوزت الستين سنة. ولو وقعت في شكّ في كونها قد انقطع عنها الحيض نهائيّاً أو لا، ولم يكن يمكنها رفع الشك بطرق علميّة أو نحوها (مثل جعل الحالة الغالبة لنساء منطقتها وقريباتها بمثابة قرينة وثوقيّة على اليأس)، فإنّ مقتضى القاعدة هو عدم ترتيب آثار اليائس عليها حتى يحصل لها اليقين بذلك، ويتحقّق الموضوع الحقيقي الذي هو اليأس من الحيض، وإن كان مقتضى الاحتياط الحَسَن هو الجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة بعد الستين لو استمرّت معها حالة الشكّ هذه، وكان الدم مما يمكن ترتيب عنوان الحيض عليه لولا فكرة اليأس.
وهذا الموضوع لا يسعني مع الأسف الإطالة فيه؛ لضيق المجال، لكنّني أشير لنقاط مفتاحيّة يمكن للراغبين بمراجعة البحث التأمّل فيها:
أ ـ إنّ النص القرآني جعل المعيار هو اليأس من المحيض، وكذلك كانت معه مجموعة كبيرة من الروايات التي استخدمت تعبير اليأس من المحيض ومثلها لا تحيض، أو تعبير: لا تلد أو لا تحبل، ونحو ذلك. وهذه عناوين واقعية تكوينية خارجيّة.
ب ـ إنّ الروايات الواردة تقع على ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: ما دلّ على أنّ حدّ اليأس هو الستون سنة قمريّة، وهو كلّ من خبر عبد الرحمان بن الحجّاج، ومرسل الكليني. ولعلّ مرسل الكليني هو عين خبر ابن الحجّاج. وهذان الخبران ضعيفان تارةً بالإرسال، وأخرى بضعف طريق الطوسي لابن فضال على التحقيق.
المجموعة الثانية: ما دلّ على أنّ الحدّ هو خمسون سنة، وهما خبران ينتهيان أيضاً لابن الحجّاج، إلى جانب مرسل ابن أبي نصر البزنطي. وأحد الخبرين مع مرسل البزنطي ضعيفان بسهل بن زياد، أمّا الخبر الآخر فهو أيضاً ضعيف السند ـ على التحقيق ـ بتردّد محمد بن إسماعيل الراوي للخبر عن الفضل بن شاذان بين النيسابوري الذي لم تثبت وثاقته والبرمكي الذي ثبتت وثاقته.
المجموعة الثالثة: ما دلّ على التفصيل بين القرشيّة فستين وغيرها فخمسين، مثل مرسل الطوسي في المبسوط، ومرسل الصدوق في الفقيه.
وبعيداً عن كونها برمّتها مجموعة أخبار آحاديّة متعارضة، مع احتمال كون أربعة منها ليست سوى رواية واحدة وهي رواية ابن الحجّاج (رواياته الثلاث مع مرسل الكليني)، كما وبعيداً عن ضعفها السندي جميعاً على التحقيق، وبعيداً أيضاً عن المجموعة الثالثة التي ناقشناها سابقاً، سوف أتوقّف عند نقطتين:
النقطة الأولى: إنّ ابن الحجّاج بنفسه روى لنا خبر الستين وخبر الخمسين، والغريب أنّه في الموردين روى عن ابن الحجّاج شخصٌ واحد وهو صفوان، الأمر الذي أثار استفهامات، من احتمال حصول خطأ في نسخة معيّنة أو في نقلٍ ما، فرجّحوا الخمسين تارةً والستين أخرى. واحتمل بعضهم صدور الروايتين من الإمام معاً فيقع التعارض وهكذا. وترجيح الخمسين على الستين أو بالعكس ليس مقنعاً، وتفصيله في محلّه.
النقطة الثانية: إنّ جمهور العلماء يتعاطون مع مثل هذا النوع من النصوص على أنّه تأسيس لسنّ يأسٍ شرعيٍّ تعبّدي، فيُصبح لدينا يأسٌ تكويني ويأسٌ شرعي، والمعيار هو اليأس الشرعي، فإذا بلغت الخمسين فهي يائس ولو لم تكن يائساً في الواقع، بل كانت على يقين بأنّ الدم الذي تراه ما يزال هو الدم عينه الذي كان يأتيها من قبل، وهو ما أثار نقد المحقّق الخراساني الذي أجاب عليه السيد الخميني بأنّه أمرٌ طبيعيٌّ جداً من حيث إنّ الشريعة تؤسّس مقولاتها ولو كانت على خلاف الواقع التكويني؛ لأنّ المسألةَ هي مسألةُ اعتباراتٍ تشريعيّة وقانونيّة.
لكنّ هذا النوع من فهم هذا النمط من النصوص، رغم أنّ نصوص الكتاب والسنّة تستخدم عبارة “اليأس من المحيض” وعبارات “مثلها لا تحيض” وأمثال ذلك كما تقدّم.. هذا الفهم مبنيٌّ على مصادرة مسبقة ترى أنّ الإمام هنا في مقام تعيين سنٍّ شرعي تعبّدي، وهذا يحتاج لدليل، فلعلّه في مقام بيان الغالب، فكيف عرفنا أنّه يقوم بتحديد سنٍّ شرعي تعبّدي، ولا يقوم بتحديد سنّ اليأس في نساء عصره؟! تماماً كما لو سألنا النساء اليوم عن سنّ اليأس فقد تجيبك واحدة وتقول: إنّه ثمانية وأربعون أو اثنتان وخمسون، تماماً كما في الرواية عند أهل السنّة من أنّ عائشة قالت بأنّ الخمسين هو سنّ اليأس، وأنّ هذا السنّ هو سنّ الخروج من الحيض. فاللغة هنا هي لغة واقعيّة وليست لغة تشريعيّة تعبديّة تأسيسيّة. وإثبات العكس يحتاج لدليل؛ لأنّ المسؤول عنه شأنٌ واقعيّ تكويني (انقطاع الحيض)، فالذهنيّة التي حكمت الفقهاء وبُنيت على مصادرة أنّ النبيَّ والإمام دائماً يتكلّمان بوصفهما مفتياً، وليس على مصادرة التمييز بين طبيعة السؤال والجواب.. هي التي أفضت للقول بوجود سنّ يأسٍ تعبديّ ولو لم يكن معه أيّ يأس حقيقي، والمفروض أنّ كلمة “اليأس” هذه استخدمها القرآن نفسه، وكان بإمكانه أن يستخدم مباشرةً عنوان “الخمسين” ما دام لم يعد لليأس أيّ موضوعيّة. وإذا لم تقبل معي أنّ جواب الإمام هنا لبيان الغالب في عصره (مقام الإخبار)، لا في مقام بيان أمرٍ تعبّدي تأسيسي (مقام الإنشاء)، فلا أقلّ من حصول الالتباس والشكّ في المراد من هذه الأجوبة، على خلاف ما اعتادت عليه الذهنيّة الفقهيّة السائدة التي تجزم بأنّ المراد هو بيان التأسيس التعبّدي، وعليه فلا يمكن الأخذ بدلالة هذه الروايات الآحاديّة على تأسيس أمر هو على خلاف الواقع التكويني الذي اعتبر معياراً في نص الكتاب والسنّة. وإن أبيتَ أيضاً فلا أقلّ من الحمل على صورة الشكّ بحيث يكون بيان الحالة الغالبة موجباً لقوّة الظنّ بأنّها يئست، أو يحمل على تبيان مقتضى الظاهر بالنسبة لغير المرأة نفسها وأمثال ذلك، فانتبه.
وهذا ما أطلقنا عليه في بحوثنا الأصولية عنوان “الشخصيّة الموضوعية للنبيّ والإمام”، بمعنى أنّه يقوم بالجواب عن الموضوعات الخارجيّة بناء على قانون الغلبة؛ لمساعدة المكلّفين على إدارة تطبيقهم للأحكام الشرعيّة على الأقلّ في موارد الالتباس، لا أنه يريد نسخ العنوان القرآني والحديثي وإعادة تعريفه بطريقة تُلغي موضوعيّته، وهو عنوان اليأس.
ولعلّ ما يؤيّد ما نقول تلك القاعدة التي استوحيناها من طرائق تعبير الأئمّة، وهو أنّ هذا الموضوع ليس عند أهل السنّة فيه أيّ حديث أو رواية نبويّة، وإنّما قال جمهور الأحناف بأنّ سنّ اليأس خمس وخمسون، ونسبوه لبعض المتقدّمين. وقال جمهور المالكية بأنّه سبعون، ومال اليه بعض الفقهاء من غيرهم. ونفت الشافعيّة وجود سنٍّ خاصّ لليأس، لكن قال بعضهم بأنّه اثنتان وستون سنة. وقالت الحنابلة بأنّه خمسون اعتماداً على مثل رواية عائشة. وبعض فقهاء أهل السنّة أرجع الأمر للمتعارف المحيط بالمرأة من الأقارب والمجتمع ونحو ذلك. وعندما يخالف الأئمّة ـ قبل عصر ابن حنبل في مورد بحثنا ـ جمهور فقهاء أهل السنّة في مسألةٍ، فهم في العادة لو كانوا بصدد بيان أمرٍ تشريعيّ تأسيسي، لنسبوه لعليّ أو للنبيّ؛ لتأكيد الاحتجاج على الجمهور ونشر الرأي الشرعي الصحيح من خلال نشر الرواية النبويّة فيه، وهو ما لم نجده هنا إطلاقاً، الأمر الذي يعزّز ـ مع قلّة عدد الروايات في موضوعٍ ابتلائيّ من هذا النوع على غير صعيد ـ أنّ هذه التحديدات لم تكن تأسيسات شرعيّة، بل بيانات إخباريّة في زمانهم، والمعيار الشرعي هو المعيار الذي وضعه القرآن ونصوص السنة (اليأس).
وعليه، فسنّ اليأس هو السنّ التي ينعدم فيها احتمال الحيض بالنسبة لهذه المرأة بشكلٍ نهائي غير مؤقّت، فلو ثبت أنّ هذا حيض ولو بلغت السبعين حكم بالحيضيّة، والعكس صحيح.
ونترك التفصيل لمجال أوسع.
حيدر حبّ الله
السبت 8 ـ 10 ـ 2022م