يظهر من جميع الفقهاء من مختلف المذاهب من الذين تعرّضوا لهذه المسألة ـ وبعضهم لم يذكرها أصلاً ـ الاتفاق على أنّ الأب أو الجدّ غير المسلم ـ فضلاً عن الأمّ غير المسلمة ـ ليس له ولاية على أولاده إذا كانوا مسلمين، حتى لو كانوا صغاراً غير بالغين وتحقّق منهم الإسلام، فالآباء مسلوبو الولاية على أبنائهم وبناتهم مطلقاً إذا كان الأولاد مسلمين وكان الآباء غيرَ مسلمين، بل عمّم بعضُ الفقهاء الحكمَ، فقال بنفي ولاية الأب غير المسلم على ولده غير المسلم أيضاً، ومن ثمّ تنتقل الولاية لغيره، وقد تصل للحاكم الشرعي، فغير المسلمين ليس لهم سلطنة على أولادهم مطلقاً، وفقاً لهذا التعميم الذي وافق عليه أمثال السيّد الخوئي، وتكون الولاية للحاكم الشرعي أو لغيره وفقاً للنظر الفقهي في القضيّة. ويُفترض أن يتبع ذلك أنّه لا يمكن للأب مثلاً أن يتصرّف في أموال ولده ولو لمصلحة الولد، ولا ولاية للأب غير المسلم على ابنته البكر البالغة الرشيدة في أمر تزويجها إذا قلنا بولاية الأب المسلم عليها في ذلك. هذا ومن فروع هذه المسألة ـ بعيداً عن الدليل الخاصّ لو فرض ـ هو سلب ولاية المرتدّ على أولاده المسلمين بمجرّد ارتداده.
وثمّة كلام في خصوص الوسط الحنبلي أنّ الأب له ولاية على أولاده الصغار بشرط إذا كان عدلاً في دينه.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّه لا فرق ـ على مستوى العنوان الأوّلي ـ بين المسلم وغير المسلم في ولايته على أبنائه وبناته، سواء كان الأولاد مسلمين أم غير مسلمين، على أن لا تكون في ولاية الأهل أيّ مفسدة تضرّ بمصلحة الأولاد دنيويّاً ودينيّاً.
وقد استند الفقهاء هنا لجملة من الأدلّة، ليس بينها ولا حتى رواية واحدة ضعيفة السند، فضلاً عن آية قرآنيّة، تملك دلالة مباشرة على الموضوع بخصوصه، لكنّ هذا لا يعني أنّه لم تكن لديهم أدلّتهم، وعمدتُها:
1 ـ قاعدة نفي السبيل، وفيها جملة الأدلة التي استدلّوا بها لتصحيح هذه القاعدة وتعميمها لمثل هذه الحالات أيضاً.
وقد قلنا سابقاً وبحثنا بالتفصيل في كتاب (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني) أنّ هذه القاعدة لا علاقة لها سوى بالجماعات، أي علاقة جماعة المسلمين بسائر الأمم والملل، ولا يمكن من خلالها استنتاج قوانين مدنيّة أو جزائية جزئيّة من هذا النوع، فراجع. بل لو صحّ الاستدلال هنا بمثل ما دلّ من النصوص القرآنيّة على أنّ المؤمنين بعضهم أولياء بعض، لنفي ولاية غير المؤمن على المؤمن، للزم إمكانيّة الاستدلال بآيات كون الكافرين بعضهم أولياء بعض، لسلب المسلم حقّ الولاية على غير المسلم! بل هذه النصوص التي استدلّ بها بعضهم أجنبيّة عن تأسيس أحكام في باب القوانين التي من هذا النوع.
2 ـ دعوى انصراف الأدلّة الدالّة على ثبوت الولاية للمسلم، ومن ثمّ فلا دليل لدينا على ولاية غير المسلم على أولاده وبخاصّة لو كانوا مسلمين. وسبب الانصراف ـ وفقاً لقناعة السيد الخوئي ـ أنّ جعل الولاية للأب إنّما هو لاحترام الإسلام له، والمفروض أنّ الكافر غير محترم؛ إذ نحن مطالبون بترك موادّته.
ويجاب ـ باختصار ـ بأنّه لا دليل على سلب احترام غير المسلم مطلقاً، وبخاصّة من هو في موقع الأب والأمّ، ونصوص القرآن في ذلك واضحة في تقديري. والمنهي عنه هو موادّة من حادّ الله، لا موادّة مطلق غير المسلم، وقد فصّلتُ البحث بشكل مطوّل في قضية المودّة والبغض لغير المسلم في كتاب (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني) أيضاً، فراجع.
يضاف إلى ذلك أنّه لعلّ السبب أيضاً في تصوّرهم الانصراف هو تصوّرهم أنّ تشريعات المسلمين مختلفة عن تشريعات غيرهم في الجوانب المدنيّة، فكلّما تعمّقت الهوّة والتمايز بين هذه التشريعات وفقاً لقاعدة نفي السبيل، ازداد الشعور بالانصراف هنا، في حين أنّ الأدلّة لا موجب لانصرافها، بل هي تتكلّم عن أمرٍ له علاقة ببنية الأسرة ـ والتي هي شأن بشري عامّ ـ دون أن تشير لما يتصل بالإسلام أو لمثل هذه القضايا. بل إنّ مبدأ ولاية الأهل على أولادهم الصغار أشبه ـ في الجملة ـ بأمرٍ عقلائي مرتكز في الأذهان، فالنصوص جاءت لتكريس هذا الأمر العقلائي لا لتأسيسه، فعدم وجود تقييد فيها يساعد على فهم العموم منها أيضاً وفقاً لهذا السياق.
3 ـ الأخذ بقاعدة الإلزام، باعتبار أنّهم لا يرون لأنفسهم ولاية على أولادهم، في مثل شرط إذن البكر البالغة الرشيدة وهكذا.
والجواب: إنّ هذا الكلام كان يمكن القبول به جزئيّاً، لولا أنّ العمومات والمطلقات في باب الولايات هي التي تعطي غير المسلم ولاية على أولاده، ولو تنزّلنا وقلنا بعدم وجودها بسبب الانصراف مثلاً، فإنّ قاعدة الإلزام تجري فقط في موارد محدّدة هنا؛ إذ لا يقول غير المسلمين بعدم وجود ولاية لهم مطلقاً على أولادهم. بل من أين نعرف أنّ مطلق غير المسلمين لا يرون ولايةً للأب على أولاده الصغار في مثل التزويج أيضاً أو على البكر البالغة الرشيدة؟! فإطلاق الكلام غير دقيق ويحتاج للتفصيل، وهذا واضح.
4 ـ دعوى الإجماع القويّ بلا منازع بحيث تصبح المسألة من المسلّمات. وقد اعتبر بعض الفقهاء المعاصرين أنّ عمدة الدليل هنا هو الإجماع الإسلامي العامّ.
وجوابه أنّه فضلاً عن عدم تعرّض العديد من المتقدّمين والمتأخّرين لهذه المسألة، فإنّ هذا الإجماع يُتوقّع جدّاً أن يكون ناشئاً من فهمهم لقاعدة نفي السبيل، كما رأينا في مواضع عديدة بصريح عباراتهم أحياناً، فلا تكون له كاشفيّة معتبرة. كما أنّ قدامى الفقهاء عندما تعرّضوا لهذا الموضوع في ولاية التزويج لعلّهم كانوا ينظرون أيضاً للحالة الغالبة في زمانهم، وهو أنّ منح الأب غير المسلم ولايةً على ابنته ربما يفضي لتضرّر دينها وتحوّلها عن الإسلام، كأن لا يوافق على تزويجها من مسلم وغير ذلك. وقد يؤيِّد ذلك ما قاله بعضهم في بحث سلب حقّ الحضانة عن الأم لمجرّد كونها غير مسلمة، وقد تحدّثنا عن ذلك سابقاً.
إلى غير ذلك من الأدلّة، وكذلك المناقشات التي يمكن إضافتها، فلا نطيل.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 20 ـ 4 ـ 2022م