التقرير أو الإقرار أو الإمضاء معناه سكوت النبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ إسلاميّاً، (والإمام ـ عليه السلام ـ شيعيّاً) عن أمرٍ عَلِم به، ووقع بين يديه. وقد استفاد علماء الاجتهاد الإسلامي من التقرير النبوي العديد من النتائج الفقهيّة؛ لأنّ النبي لم يكن يعيش بمعزل عن مجريات الأحداث بل كانت تقع أمامه يومياً وقائع وظواهر عديدة جداً، فسكوته عن بعضها إذا كان يفيد حكماً تشريعياً فمن الطبيعي أن يمدّنا بالكثير من المعطيات في هذا المجال أو ذاك، وهذا ما يجعل نظرية حجية التقرير في غاية الأهميّة بالنسبة للاجتهاد الشرعي.
وقد استفاد علماء أصول الفقه الإسلامي حجيّة التقرير من أدلّة حجيّة السنّة، فكانت حجيّة التقرير مذهبَ جمهور العلماء، لكن المعروف أنّه خالفت في ذلك قلّةٌ قليلة، كما فيما نُسب إلى أبي بكر الباقلاني (403هـ)، وذهب إليه الجويني (478هـ) في خصوص كتاب «التلخيص»، من اعتقادهما أنّ السكوت لا يعمّ؛ لأنه ليس بخطاب، فيكون منحصراً بتلك الواقعة لا يُتعدّى عنها، فيُستفاد منه الجواز لذلك الفاعل لا لغيره، فلو شرب زيدٌ الماء جالساً أمام رسول الله، وسكت النبي عن فعله ولم يعلّق؛ فإنّ أقصى شيء تعطيه هذه الحادثة هو جواز شرب الماء في تلك الحال لزيد نفسه فقط، ويصعب أن نقوم بتعميمها لغيره بحيث نقعّد الموقف بوصفه حكماً شرعياً لعامّة المسلمين. غير أنّ التأمّل في رأي الباقلاني والجويني لا يدلّ على إنكارهما حجيّة التقرير، بل يفيد إنكارهما عموميّة الحجيّة والتوظيف، فلاحظ.
وقد ذُكرت تفصيلات أخرى في حجيّة التقرير ذهب إليها بعضُ العلماء.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّ أقصى ما تفيده أدلّة حجيّة السنّة هو حجيّة السنّة التقريريّة في خصوص دائرة الظواهر العامّة كالأعراف والسلوكيّات والمرتكزات العقلائيّة أو المحليّة التي تكون بمرأى ومسمع من النبيّ (أو الإمام) لمدّة زمنيّة متواصلة معتدّ بها، فإنّ سكوته عنها كاشفٌ عن عدم مخالفة الشريعة لها. أمّا الأحداث والوقائع الخاصّة والجزئيّة أو الفرديّة التي تقع بمرأى النبيّ لمرّة أو مرّتين مثلاً، فإنّ سكوته عنها لا يكشف عن موقفٍ شرعيّ منها ـ حتى للفاعل أو التارك نفسه ـ ولو كان هذا الموقف هو عدم مخالفة الشريعة لها، إلا إذا قامت قرائن في حدثٍ خاص تبعّدُ احتمالَ عدم كاشفيّة السكوت، فيؤخذ بالقرائن حينئذٍ لا بعموميّة قانون حجيّة التقرير.
لكنّ التقرير ليس لديه قوّة السنّة القوليّة؛ إذ إمكانات المحدوديّة التاريخيّة فيه أعلى، وذلك بسبب كونه تعبيراً صامتاً لا يحمل إطلاقاً، إلا إذا كان متعلّق التقرير أمراً يحمل في نفسه إطلاقاً زمكانيّاً، كما ذكرنا بعض أمثلته في محلّه، فالإطلاقُ قائمٌ في متعلّق التقرير، لا في دلالة التقرير نفسها، فانتبه. وربما لهذا مال الباقلاني والجويني لتضييق دائرة توظيف التقرير النبوي. ومناقشةُ خصومهما لهما بأنّ ذلك على خلاف قاعدة الاشتراك في الأحكام هي مناقشة غير موفّقة في تقديري، كما ذكرتُ ذلك في محلّه، فراجع؛ حيث لا نريد الإطالة هنا.
وقد بحثتُ هذا الموضوع كلّه في كتابي (حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 637 ـ 659، الطبعة الأولى، 2011م)، فراجع.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 14 ـ 6 ـ 2022م