تُعتبر مسألة حجيّة الإجماع الفتوائي المذهبي أو الإسلامي، وكذلك حجيّة الشهرة الفتوائيّة، من القضايا التي شهدت بحوثاً موسّعة عبر التاريخ الإسلامي عند المذاهب. وقد كان الإجماع ذا قيمة عالية في الفضاء الاجتهادي السنّي. بل إنّ لديّ مقاربة تاريخيّة تحليلية، اجتماعيّة وسياسيّة، ترجّح أنّ فكرة سُلطة الإجماع والشهرة هي فكرة تكرّست بقوّة في العصر العباسي؛ لأهداف سياسيّة وطائفيّة في مواجهة الأقليّات المذهبيّة ومواجهة المعارضين والمختلفين في الرأي. أمّا إماميّاً فقد تراجعت ـ في القرنين الأخيرين ونظريّاً ـ قيمة بعض أنواع الإجماع (الإجماع المنقول)، وكذلك تراجعت قيمة الشهرة الفتوائيّة، وبخاصّة منذ زمن الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ).
لكنّ سُلطة الإجماع والشهرة ما تزال حاضرةً عمليّاً في أعمال الكثير من فقهاء المسلمين بمذاهبهم، كما أنّها هي التي تقف خلف الكثير ـ وليس الكلّ بالتأكيد ـ من الاحتياطات المبثوثة في الفتاوى والرسائل العمليّة.
والذي توصّلتُ إليه في هذه القضيّة التي أعتبرُها من أمّهات قضايا الاجتهاد والتي تضعه على مفترق طُرق، هو عدم حجيّة الإجماع المنقول، سواء كان على المستوى المذهبي أم على المستوى الإسلامي. أمّا الإجماع المحصَّل وكذلك الشهرة الفتوائيّة فنظريّاً ومبدئيّاً يمكن تبرير اعتبارهما المنطقي، لكنّني أرى ـ بنظري القاصر ـ أنّ محاولات إثبات الحجيّة لهما هي محاولات نظريّة بحتة في الغالبيّة الساحقة من الموارد؛ والسبب في ذلك هو صعوبة التحقّق من الشروط الموضوعيّة اللازمة لانعقاد إجماعٍ حجّة أو شهرةٍ كذلك. وبهذا لا قيمة للإجماع الفتوائي بنوعيه وللشهرة الفتوائيّة بما هما قاعدة لها حضورها في الاجتهاد الفقهي.
نعم، يصلح الإجماع والشهرة بمثابة شواهد إضافيّة على الأدلّة الحقيقيّة، تقوم بدور المؤيِّد لها أحياناً، لكنّهما ليسا دليلاً قائماً بنفسه ولو للكشف عن السنّة الشريفة. كما أنّني أُقرُّ بأنّ هناك مواضع قليلة جدّاً في الفقه يمكن أن يكون الإجماع أو الشهرة حجّةً مستقلّةً فيها بحسب طبيعة الملابسات، لكنّ هذه المواضع تظلّ حالات استثنائيّة قليلة للغاية تكرّسُ ميدانيّاً قاعدةَ عدم الحجيّة ولا تنفيها.
وقناعتي الشخصيّة هو أنّ الاجتهاد الشرعي يلزمه اليوم أن يُترجم هذا كلّه؛ ليُصبح أمراً عمليّاً، بمعنى ضرورة أن يتحرّر الفقيه حقّاً وحقيقةً من سُلطة الإجماع والشهرة ورهبتهما دون أن ينبذهما تماماً، ودون أن يصبح خصماً لهما عناداً واستكباراً، ودون أن يعيش عقدتهما نقصاً وانتقاماً.
من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصول المشتغِل في حقل العلوم الشرعيّة ـ وأعتبر نفسي أحد هؤلاء ـ لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد هو تحرّره النظري والعملي معاً من سلطة الإجماع والشهرة.
حيدر حبّ الله
السبت 9 ـ 10 ـ 2021م