اشتهر بقوّةٍ بين متأخّري فقهاء الإماميّة القول بتنجيس المتنجّس، حتّى ادّعي عليه الإجماع، وهذا يعني أنّ ملاقاة عين النجاسة يوجب تنجّس الملاقي، وكذلك ملاقاة الملاقي لعين النجاسة يوجب تنجّس ملاقيه ولو لم يكن على الملاقي الأوّل عينُ نجاسةٍ.
لكنّ دراسةً تاريخية للمسألة ـ أشار إليها العديد من كبار الفقهاء، ليس آخرهم المحقّق الهمداني والسيد الخوئي ـ تؤكّد أنّ موضوع تنجيس المتنجّس (الجامد على الأقلّ) رغم كثرة الابتلاء به لم يتعرّض له جمهور المتقدّمين من الفقهاء أصلاً، وليس لهم في هذا الأمر عين ولا أثر، حتى أنّ الحلّي وأمثاله في القرن السابع والثامن الهجريّين ذهبوا لعدم تنجيس المتنجّس، ويستوحى من كلماتهم أنّه لا عين ولا أثر لهذه المسألة قبلهم، بل ذهب بعض المتأخّرين مثل الآخوند الخراساني والمحقّق الهمداني إلى أنّه لا عين ولا أثر لفكرة تنجيس المتنجّس في الروايات، رغم أنّ القائلين بتنجيس المتنجّس طرحوا الكثير من الروايات لإثبات فكرتهم.
وذهب جماعة ـ منهم السيد الخوئي ـ إلى أنّ المتنجّس بملاقاة عين النجاسة كالنجس، ينجّس ما يلاقيه مع الرطوبة المسرية، وكذلك المتنجّس بملاقاة المتنجّس ينجّس الماء القليل بملاقاته، وأمّا في غير ذلك فالحكم بالنجاسة مبنيٌّ على الاحتياط الوجوبي. أمّا السيد الروحاني فاعتبر أنّ المتنجّس الأوّل ينجّس مطلقاً، أمّا الثاني وما بعده فلا ينجّس إلا المائعات دون الجوامد. أمّا السيد السيستاني فحكم بعدم تنجيس المتنجّس الثاني مطلقاً. واحتاط وجوباً السيد محمّد صادق الروحاني في تنجيس المتنجّس الأوّل لغير المائعات، وذهب السيد محمد باقر الصدر إلى أنّ المتنجّس إذا لم يكن مائعاً ولم يكن قد تنجّس بعين النجس ولا بالمائع المتنجّس بعين النجس، لا يكون منجّساً، وقريب منه بل مطابق له ما ذهب إليه السيد محمود الهاشمي. واشتهر بين بعض الفقهاء أنّه مع قلّة الوسائط يحصل التنجيس وأمّا مع كثرتها فلا، وممّن قال بذلك السيد روح الله الخميني والشيخ فاضل اللنكراني والشيخ محمّد إبراهيم الجنّاتي وغيرهم. واحتاط السيد فضل الله في المتنجّس الجامد الأوّل، أمّا المتنجّس الثاني وغيره فحكم فيهما بالطهارة، إلى غير ذلك من الآراء الكثيرة والتفاصيل المتشعّبة في هذه المسألة.
والذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ هو:
أ ـ إنّ عين النجاسة توجب تنجيس ما يلاقيها مطلقاً، مائعاً كان ملاقيها أم جامداً، مع تحقّق شروط التنجيس المأخوذة في الفقه.
ب ـ إنّ المتنجّس المائع ـ كالماء ـ الملاقي لعين النجاسة (وهو ما يسمّى بالمتنجّس الأوّل المائع)، ينجّس ما يلاقيه، فلو تنجّس الماء الذي في الإبريق بسقوط قطرة بول فيه، فإنّ هذا الماء لو وقع على الثوب فإنّه ينجّسه، فلا يمكن الصلاة بهذا الثوب قبل تطهيره، وكذلك لو وقع هذا الماء على ماء آخر فإنّه ينجّسه.
ج ـ إنّ المتنجّس المائع ـ كالماء ـ الملاقي لملاقي عين النجاسة (وهو ما يسمّى بالمتنجّس الثاني المائع)، لا ينجّس ما يلاقيه (سواء قلنا بأنّه متنجّس أم لا)، سواء كان ما لاقاه جامداً أم مائعاً، فلو تنجّس الماء الذي في الإبريق بقطرة بول، ثم سقط شيء من هذا الماء في طشتٍ فيه ماء، فإنّه يُحكم بنجاسة الماء الذي في الطشت، لكن لو سقط شيءٌ من ماء الطشت على ماءٍ ثالث لم يحكم بنجاسة الماء الثالث. وكذلك لو وقع شيء من ماء الطشت هذا على اليد أو الثوب مثلاً، فإنّه لا يُحكم بنجاسة اليد ولا الثوب. وعليه فالمتنجّس المائع الثاني، فضلاً عن الثالث والرابع وغيرهما، لا ينجّس ما يلاقيه مطلقاً.
د ـ إنّ المتنجّس الجامد لا ينجّس ما يلاقيه مطلقاً، مائعاً كان الملاقي أم جامداً، بلا فرقٍ في ذلك بين المتنجّس الأوّل أو الثاني أو الثالث أو غير ذلك، فلو تنجّست اليد بالبول، ثمّ زالت عين النجاسة زوالاً عرفيّاً، فلاقت اليدُ الثوبَ لم ينجس الثوب، وكذا لو لاقت هذه اليد ماءً، فإنّه لا ينجس هذا الماء، وهكذا. وإن كان مقتضى الاحتياط الحَسَن هو الحكم بتنجّس خصوص الماء الملاقي للجامد المتنجّس الأوّل خاصّة، وكذلك مقتضى الاحتياط الحَسَن هو القول بتنجيس الجامد الذي تنجّس بالمائع المتنجّس بعين النجس.
والنتيجة: إنّ ملاقاة عين النجاسة أو ملاقاة خصوص المائع المتنجّس بعين النجاسة، يوجب تنجيس الملاقي، وأمّا في غير ذلك فلا تنجيس مطلقاً، وإن كان الاحتياط حَسَناً في بعض الصور كما بيّنّا.
ملاحظة توضيحيّة: قلنا بأنّ المتنجّس الأوّل المائع منجِّس، وفي الوقت عينه قلنا بأنّ المتنجّس الأوّل الجامد غير منجّس، وهنا لابدّ من توضيح أمرٍ، وهو أنّه لو فرضنا أنّ بولاً سقط في ماءٍ قليل فنجّسه، فصار الماء متنجّساً (متنجّس أوّل مائع)، ثم سُكب هذا الماء على الأرض، فإن بقي الماء على الأرض واتصلت يدنا بالأرض، فهنا يحكم بنجاسة اليد؛ لأنّ اليد لاقت المتنجّس الأوّل المائع؛ لكونه ما زال بعينه على الأرض، أمّا لو جفّ الماء، ظلّت الأرض متنجّسةً، لكنّه لو لاقت يداً رطبة أو صببنا ماء طاهراً قليلاً على الأرض فصارت مرّةً ثانية رطبة، فهنا لا يحكم بنجاسة ملاقي الأرض؛ لأنّ المتنجّس الجامد لا ينجّس مطلقاً.
والكلام في الأدلّة والمناقشات لا يسعه هذا المختصر، إذ الروايات المتعرَّض لها هنا والمحتمل دلالتها على التنجيس أو على عدمه، كثيرةٌ ومتداخلة، ولا يمكن عرض التحليل باختصار، فنوكله لمناسبة أخرى.
حيدر حبّ الله
السبت 12 ـ 3 ـ 2022م