نادراً جداً ما يتحدّث الفقه الإسلامي، في تراثه المتنوّع على مستوى المذاهب الإسلاميّة، عن وجوب أو حتى استحباب إقامة الحدود والقصاص والتعزيرات أيّاً كانت، في العلن وعلى مرأى الناس ومسمع، كما هي الحال المتعارفة في بعض البلدان الإسلاميّة في العصر الحديث، وذلك باستثناء حدّ الزنا، حيث يوجبون حضور مجموعة من الناس تشهد إقامة الحدّ. لكنّ بعضهم شَرَط هذا الوجوب بطلب الحاكم الشرعي حضورَ هذه المجموعة، فيما رأى آخرون أنّ حضور طائفة من المؤمنين إجراءَ حدّ الزنا أمر مستحبّ. وبحثوا كذلك في حكم الحاكم نفسه هل يجب عليه الطلب من المؤمنين الحضور أو لا أو أنّ الأمر تابع لما يراه من المصلحة؟ وإن ذهب كثيرون إلى عدم وجوب دعوة الحاكم للناس للحضور، وإنّما هي وظيفة ترجع للمكلّفين أن يحضروا حدّ الزنا خاصّة.
وعلى مستوى حدّ الزنا، فإنّ العمدة هنا الآية الكريمة (النور: 2)، والتي يظهر منها ضرورة أن يشهد عذاب الزانيَين طائفةٌ من المؤمنين، وذلك إلى جانب بعض الروايات التي أشارت إلى ما فعله الإمام علي بطلبه من الناس الخروج لإجراء حدّ الرجم على الزاني أو الزانية. وقد حاول بعضُهم افتراض أنّ الآية تأمر بذلك؛ انطلاقاً من ضرورة توثيق العقوبة، والتثبّت من إجرائها على وجهها الصحيح دون تقصيرٍ ولا إفراط، بينما اعتبر آخرون أنّ المستفاد من الآية هو اتّعاظ المؤمنين المشاهدين للعذاب أو غير ذلك، فيما فهم بعضهم من الدعوة لحضور حدّ الرجم ليس لزوم حضور الناس وكون الحدّ على الملأ العام، بل إنّ طبيعة حدّ الرجم تتطلّب مشاركة عدد من الناس، فكان الطلب اعتماداً على ذلك.
واختلف الفقهاء في «الطائفة» التي يُطلَب حضورها لحدّ الزنا، فذهب بعضهم إلى كفاية حضور شخص واحد، وقيل: اثنان، وقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: عشرة، وقيل بإرجاع الأمر للعرف.
والذي توصّلتُ إليه بنظري المتواضع، هو أنّه لم يثبت، بالعنوان الأوّلي، وجوب ولا استحباب كون العقوبات الجزائيّة والجنائيّة ـ من حدودٍ وقصاص وتعزيرات ـ علنيّةً، وأعني بالعلنيّة أن يتمّ إجراؤها أمام الناس وبمحضر الملأ العام. نعم الثابت الراجح في حدّ الزنا خاصّة هو وجوب (وليس استحباب) أن يحضر إجراءَ الحدّ عددٌ من المؤمنين، لا من مطلق الناس. ويكفي فيه الصدق العرفي كعشرة أو عشرين. وهذا مفهومٌ آخر مختلف تماماً عن مفهوم علنيّة العقوبات بالمعنى المبحوث عنه هنا، فيمكن استدعاء بعض الأفراد المؤمنين لمشاهدة العقوبة ولو في داخل السجن، وربما كانوا من العاملين في القضاء أو السجن نفسه.
بل إنّ إعلان العقوبات أمام الملأ العام يمكن أن يكون محرّماً بالعنوان الثانوي لو لزم منه التشهير بالمتهم في موقعٍ لا يجوز فيه التشهير به، أو لو لزم منه التشهير بأسرته وأفراد عائلته بحيث يلحقهم من ذلك حرج وضيق اجتماعيَّان، وبخاصّة في العصر الحديث حيث يتمّ تداول مشاهد العقوبات على الأفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فحيث لا دليل على الوجوب أو الاستحباب في علنيّة العقوبات، فإنّ أيّ تصرّف زائد عن مقدار العقوبة المقرّرة يُلحق الأذى بالمتهم أو بأحد أفراد عائلته سيكون محرّماً في مثل هذه الحال. نعم، للقاضي إذا رأى خصوصيّةً في مجرمٍ معيّن أن يطالب بكون معاقبته علنيّة، وهذا يحتاج لتبرير قضائي خاصّ يُدافع فيه القاضي عن حكمه هذا؛ إذ الأصل هو أنّ للإنسان حرمة ولو كان جانياً، وذلك في غير ما ثبت جواز هتك حرمته فيه كالعقوبة نفسها.
ومن هنا يظهر أنّه لو لم يلزم أيّ محذور ثانوي من جعل العقوبة علنيّة، مثل محذور هتك الحرمات كما ألمحنا سابقاً، فإنّه لا دليل على مستوى العنوان الأوّلي يفيد حرمة أو كراهة جعل العقوبات علنيّةً، كما لا دليل في هذه الحال على وجوب كونها سريّةً بشكل تامّ.
والمستند في النصوص حول علنيّة العقوبات ليس سوى الآية وبعض الروايات حول ما كان يفعله الإمام علي ـ عليه السلام ـ من الإعلان للناس أن يجتمعوا لإقامة الحدّ. والآية واضحة في مفهوم الطائفة، وهي العدد من الأفراد، لا جمهور الناس، ولا علنيّة العقوبة بالمعنى المطروح اليوم، مضافاً لاختصاصها بحدّ الزنا. ودعوى إلغاء الخصوصيّة بتنقيح المناط في غاية الصعوبة، وبخاصّة أنّ في الأمر أحياناً حيثيّة وكرامة المعاقَب.
كما أنّ دعوى أنّ الإعلان يردع الناس هو مجرّد استحسان واستنساب، بل يقال بأنّه قد دلّت بعض الدراسات الإحصائيّة في بعض البلدان الإسلاميّة على العكس تماماً.
وأمّا سلوك الإمام عليّ، فهو تصرّف وقع لمرّتين أو ثلاث على أبعد تقدير في خصوص حدّ رجم الزاني لا مطلق العقوبات، والفعلُ دليلٌ صامت، خاصّة وأنّ سياق الروايات ليس في وجوب الاجتماع، بل في أمرٍ آخر مرتبط بمن كان لله عليه حدّ، فلا يمكنه أن يقيم الحدّ على غيره، فراجع، بل لعلّه في ذلك الزمان كانت هذه هي السبيل المتاحة، علماً أنّنا لا ندري هل أصدر الإمام عليّ أمراً بوجوب الحضور من موقع كونه مبلّغاً للحكم الشرعي الإلهي ومطبّقاً له أو من موقع كونه قاضياً، فحكم بمقتضى ما رآه من مصلحة قضائيّة بعلنيّة هذه العقوبات المحدودة التي أجراها، والسياق المحيط لا يمنحنا أيّ ترجيح لإحدى الفرضيّتين على الأخرى، فيؤخَذ بالقدر المتيقّن، وهو هنا عدم وجوب ولا استحباب الإعلان أو الدعوة العامّة للاجتماع. نعم ثمّة رواية آحاديّة نقلها أهل السنّة عن الشعبي عن الإمام عليّ، في بعض صيغها توضيح من الإمام علي لكيفيّة إجراء حدّ الرجم وعلنيّته. ودلالتُها مقبولة غير أنّها آحاديّة، بل بين أهل السنّة كلامٌ كثير في رواية الشعبيّ عن عليّ.
وأمّا أنّ حاكم المدينة بعد أن أخذ حكم قتل سابّ النبيّ من الإمام أعلن في الناس أنّه يريد قتله، فهذا ليس بدليل على الوجوب أو الاستحباب، ففرقٌ بين أنّ الإمام يفعل ذلك وأن يفعله الحاكم، علماً أنّه يجري فيه ما جرى فيما قلناه في الروايات عن الإمام عليّ.
وقد التبس الأمر ـ فيما يبدو لي ـ على بعض الباحثين، فظنّ أنّه يمكنه تبرير رجحان علنيّة العقوبات بالاستدلال على نفي وجوب سريّتها؛ فإنّ عدم طلب الشريعة بشكل مباشر سريّة العقوبة لا يعني طلبها العلنيّة بالمعنى الذي نبحثه هنا، والمثال الذي ذكره هو عقوبة النفي المقرّرة في الشريعة حيث يُطلب من الناس في بلد المنفى عدم التواصل مع المنفِي، ويتمّ إعلان ذلك بينهم، ولكنّ هذا لو تمّ ووافقنا عليه، وفيه نظر، لا يعني علنيّة العقوبات، بل هذه العقوبة بذاتها تقتضي إعلام الناس بها؛ لأنّ المفروض أنّ العقوبة هي النفي وعدم التعامل معه والحجر عليه اجتماعيّاً، وهو أمرٌ لا يحصل من دون مشاركة الناس، فكيف يمكن قياس هذا على علنيّة مختلف أنواع العقوبات؟! ومثل هذه العقوبة عقوبةُ التشهير نفسها التي تحدّثوا عنها في بعض الموارد القليلة، فعقوبة التشهير تتطلّب ذاتاً الإعلان، لا أنّنا نقوم بالإعلان أثناء ممارسة العقوبة التي هي شيءٌ آخر غير الإعلان نفسه، فانتبه.
كما أتعب بعضهم نفسه في ذكر شواهد تاريخيّة، يبدو لي أنّه لا فائدة منها، مثل أنّ الإمام كان حاضراً في مجلس القضاء، فحُكم على شخصٍ بعقوبة، وكان بعض الناس حاضرين، فتمّ الأمر لهم بتنفيذ العقوبة، حيث تمّ تصوّر أنّ هذا معناه علنيّة العقوبات، وكأنّ فكرة علنيّة العقوبات تعني مجرّد عدم سرّيتها التامّة! في حين أنّ المراد هنا من علنيّة العقوبات هو مفهوم الملأ العام، كأن تجري العقوبة في الساحات العامّة أو تبث مباشرةً على شاشات التلفاز، أو غير ذلك. وأمّا نصب جثّة المقتول، بعد قتله، على الصليب لثلاثة أيّام، فغايته أنّه ـ لو ثبت ـ استثناءٌ يصعب استنتاج قاعدة منه.
إلى غير ذلك من الوجوه والتفاصيل التي لا نطيل بذكرها في هذا المختصر.
حيدر حبّ الله
الأحد 15 ـ 5 ـ 2022م