لعلّ المشهور في كلمات الكثير من الفقهاء أنّه يكره لذوي المروءة والشرف والمناصب والمكانة الاجتماعيّة أن يتصدّوا للخصومات والمنازعات القضائيّة ونحوها، بل يستحبّ لهم أن يوكّلوا غيرهم في الترافع عنهم. ويظهر بالمراجعة التاريخيّة أنّ هذا الحكم راج بجديّة ـ إماميّاً ـ بعد المحقّق الحلّي (676هـ). وفي نصوص بعض الفقهاء المتأخّرين ـ كالسيّد محسن الحكيم ومن تبعه إلى اليوم ـ تعبيرٌ مطلق، وهو استحباب توكيل ذوي المروءات لغيرهم في مهماتهم، وهو يوحي بالأعمّ من المرافعات والمنازعات وغيرها، وعليه فذوي المروءة يستحبّ لهم توكيل غيرهم في بيوعهم ومعاملاتهم وغير ذلك، ولا يباشروا ذلك بأنفسهم.
ولكنّ الذي توصّلتُ إليه هو عدم ثبوت استحبابٍ قائم بنفسه من هذا النوع لذوي المروءة ولا لغيرهم. كلّ ما في الأمر أنّ التصدّي المباشر من قبل الشخص إذا كان يلزم منه عادةً إهانة له أو جرحٌ لكرامته ـ كما لو كان الطرف الآخر المتنازع معه بذيء اللسان مثلاً ـ أو كان مزاحماً لأمرٍ أهم بحسب طبيعة عمله وضرورات حياته، فإنّ الأفضل أن لا يتصدّى له مباشرةً بل يترفّع عنه، فلا تمييز هنا في الشرع ـ بنظري القاصر ـ بين أصحاب الشرف والمناصب وغيرهم، فكلّ الناس من مختلف الطبقات سواسية هنا. بل لعلّ تصدّي أصحاب المناصب والمكانة الاجتماعيّة لأمورهم مباشرةً ولو أحياناً، فيه تربية روحيّة وأخلاقيّة لنفوسهم، كما لو كان ينزل بنفسه للأسواق ويشتري ويحمل مشترياته بنفسه ويعيش مع الناس، رغم كونه من مستوى اجتماعي أو سياسي أو مالي أو أسري رفيع. بل إنّ القول باستحباب التوكيل مطلقاً في مختلف المهمّات، ولو في غير المخاصمات، يوجب عزلة الإنسان عن الطبقات الاجتماعيّة الأخرى الأدنى من طبقته، وهو ما قد يترك ـ أحياناً ـ أثراً روحيّاً غير محبوب، وفقاً للقيم الأخلاقية والروحيّة الإسلاميّة العامّة.
والدليل الأساس لهم هنا على إطلاقيّة هذه الفتوى، هي الرواية المنسوبة إلى الإمام علي عليه السلام، والتي تفيد أنّه وكّل أخاه عقيلاً في منازعةٍ، وقال: «إنّ للخصومة قُحماً..»، والقحم المهلكة. والرواية غير خاصّة بذوي الشرف، لكنّهم فهموا منها ذلك، ولو انطلاقاً من كون الموكِّل هو مثل الإمام عليّ. لكنّ هذه الرواية ـ فضلاً عن كونها خبراً آحاديّاً ظنيّاً ـ لا وجود لها في المصادر الإماميّة الأصليّة، عدا نقل مقطعٍ منها في نهج البلاغة للشريف الرضي، بل هي رواية سنيّة نقلها البيهقي وأمثاله، وهي ضعيفة السند جداً حتى عند أهل السنّة أنفسهم، كما أقرّ بذلك الألباني وغيره، فلا يُعمل بها، حيث لا نقول بقاعدة التسامح في أدلّة السنن.
هذا، وقد ناقش بعض الفقهاء في هذه الرواية بأنّ النبيّ وأهل بيته ـ عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام ـ حضروا معاملاتٍ ومنازعات شخصيّة ولم يوكّلوا، وهذا منقول متعدّداً في التاريخ، لكنّ أنصار هذه الفتوى المشهورة قالوا بأنّ ذلك لا يضرّ؛ لأنّ النبي وأهل بيته قد يتركون المستحبّات لمصالح أهمّ أحياناً، كما ورد في بعض الروايات من أنّ الإمام موسى الكاظم عليه السلام كان يترك النوافل عندما يصيبه غمٌّ أو همّ. كما نوقش في هذه الرواية بأنّه كيف يرضى عليٌّ ذلك لأخيه ولا يرضاه لنفسه؟! وأُجيب بأنّ الوكيل لا يقع في الإهانة كما في الأصيل صاحب المنازعة. إلى غير ذلك من التعليقات، فلتُراجع.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 19 ـ 1 ـ 2022م