ذهب مشهور فقهاء الإماميّة إلى وجوب تحنيط الميّت، والمراد به هنا هو جعل الكافور (أو مسحه) على مساجد الميّت السبعة، وذكروا له أحكاماً عدّة وتفاصيل، في مقدار الكافور المستعمَل، وفي المواضع بالدقّة سلباً وإيجاباً، وفي شروط الكافور، وفي كون التحنيط بعد التغسيل وقبل التكفين، وفي حكم تحنيط المحرِم، وغير ذلك.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّ تحنيط الميّت ـ بصرف النظر عن الكيفيّات والشروط ـ مستحبٌّ مسنون، وليس بواجب، فلو لم يتمّ تحنيطه، بل دُفن بلا تحنيط أجزأ. غير أنّ الاحتياط بتحنيط الميّت وجيهٌ.
وعمدة الأدلّة عندهم هنا ـ بعد الإجماعاتِ والشهرات واضحةِ المدركيّة ـ هي النصوص العديدة الواردة في التحنيط، وهي بين صحيح السند وضعيفه تتعاضد فيقوّي بعضُها بعضاً. لكنّ مشكلة هذه النصوص في غالبيّتها الساحقة أنّها لم تذكر وجوب التحنيط، بل ذكرت كيفيّاته وبعض تفاصيله، فمن الممكن أن يكون مستحبّاً مؤكّداً، وتصدق هذه التفاصيل جميعاً، فإذا جاء في الرواية مثلاً: إذا أردت تحنيط الميّت فافعل كذا وكذا، وَضَعِ الكافور هنا وهناك، ولا تضعه في مسامعه أو عينه أو في أنفه وغير ذلك.. فهذا لا يدلّ على الوجوب، بل ينسجم مع كون التحنيط من المستحبّات المؤكّدة التي جرت العادات عليها أيضاً. وهكذا لو قال الراوي ـ في مثل خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله ـ بأنّني سألته عن التحنيط فأجابني: اجعله على المساجد السبعة، فإنّ السؤال والجواب لا يفهم منهما بوضوح أصل حكم التحنيط، بل ينسجم أيضاً مع كون المنظور له ما يوضع الكافور عليه من أجزاء البدن. وقد بحثنا في محلّه وقلنا بأنّ أحد مشاكل الروايات أحياناً أنّ طبيعة سؤال السائل غير واضحة، وأنّ علينا استخراج السؤال من خلال الجواب أحياناً، ومن ثمّ ففي مثل هذا الخبر ربما يكون السؤال عن مواضع التحنيط، ولهذا لم يجبه الإمام بقوله: «إنّه واجب فقوموا به»، بل طالبه أن يجعله في مساجده.
المشكلة الأخرى الموجودة في جملة من هذه النصوص، هو اشتمال الروايات على ذكر الواجبات والمندوبات المرتبطة بالميّت بطريقةٍ يختلط فيها الواجب بالمندوب، وفي هذه الحال ـ وفاقاً لبعض العلماء وخلافاً لآخرين ـ فإنّ فهم العرف للوجوب هنا غير واضح إطلاقاً؛ لأنّ السياق لا يساعد على استخراج الوجوب من النصّ. ويظهر أنّ المحقّق النجفي (1266هـ) استشكل في وجوب التحنيط انطلاقاً من النقطة الثانية، وأجابه السيد محسن الحكيم وغيره بأنّ إشكاليّته لا تضرّ بعد وجود الإجماعات والشهرات، غير أنّه في تقديري لو جمع النجفيُّ المشكلتَين المتقدّمتين معاً كان أفضل في إرباك القول بوجوب التحنيط، مضافاً لمشاكل سنديّة في الروايات، فضلاً عن كون الدالّ بوضوح خبراً آحاديّاً. وقد تقدّمت مناقشة الإجماعات التي يستند إليها كثيرون لتفادي المشاكل الاستدلاليّة التي من هذا النوع.
حيدر حبّ الله
الأحد 10 ـ 7 ـ 2022م