الفُقَّاع أو ما يعبّر عنه اليوم بالجِعَة، ويستخدم بعضهم تعبير “البيرة” في تبيينه، من المشروبات التي وقع فيها جدلٌ في تراث الفقه الإسلامي بين المذاهب، وهو شراب ارتبط بالشعير غالباً، وبعضهم خصّه بما أخذ منه، لكنّ بعضهم عمّم، لكنّه ليس مطلق شراب الشعير، بل هو خصوص المتّخذ من الشعير بحالة خاصّة وطريقة خاصّة ونتيجة تخمير معيّن.
ولعلّه يمكن القول بأنّه لا يوجد خلاف معتدّ به بين فقهاء الإماميّة فيما يخصّ حرمة الفقّاع قليله وكثيره، أمّا المذاهب السنيّة، فقد اعتبرت أنّ الفقّاع غير مسكر، فيكون مباحاً، لكنّ هذا لا يعني أنّهم يجيزون “البيرة” الآن، كما توهّم بعض الناس؛ فهم يحرّمون البيرة إذا كان فيها كحول تُسكر على تقدير الإكثار من شربها، ولهذا تجدهم يختلفون اليوم أشدّ الاختلاف في حكم (الباربيكان/Barbican) وغيرها من أنواع شراب الشعير، وأنّه هل فيه كحولٌ ليكون حراماً أو لا؟
والذي توصّلتُ إليه هو أنّه لا يوجد حكمٌ شرعي مستقلّ في الشريعة بعنوانه اسمه تحريم الفقّاع، بحيث كلّما صدق عنوان الفقّاع حرُم مطلقاً، بل هو مجرّد تطبيق للقاعدة الثابتة في الشريعة، والتي تقول: «كلّ ما أسكر كثيرُه فقليله حرام»؛ ولهذا ورد في بعض الروايات حول الفقّاع أنّه «خُميرةٌ استصغرها الناس»، وفي بعضها الآخر تعبير: «خمرٌ مجهول». وعليه فمعيار تحريم الفقّاع مهما سمّيناه اليوم، ليس في كيفيّة صنعه، ولا في النشيش والغليان وغير ذلك، ولا في صدق اسم الفقّاع عليه بحيث تخرج منه نتيجة التخمير فقاقيع من أسفله إلى أعلاه فيحدث ما يُسمّى بالانقلاب فيه، ولا غير ذلك، فهذه ليست إلا علامات قد نرجع إليها وتفيدنا حصول الخمريّة فيه عند الشكّ وعدم العلم، وإنّما المعيار الحقيقي هو في اشتماله على نسبة كحوليّة توجب لو شرب منه الإنسان العادي كثيراً ـ أعني الإنسان غير المدمن عليه والمعتاد جسدُه عليه ـ أن يسكر ولو سُكراً خفيفاً.
وينتج عن ذلك أنّ العبرة بالدراسة المخبريّة والكيميائيّة التي تكشف لنا أنّ هذا السائل المتخذ من الشعير أو غيره، هل يحتوي على نسبة كحوليّة توجب الإسكار ـ ولو الخفيف ـ على تقدير الإكثار منه أو لا؟ وليس المهم كيف تمّ تصنيعه؟ وما هو اسمه لغةً وعرفاً؟ وما هي عوارض التصنيع ووقائعه؟ كما يفعل بعض الناس اليوم، فلو صنّعناه بطريقة توجب النشيش والغليان المعروفين وصَدَق عليه اسم الفقّاع عرفاً ولغةً، لكنّنا وضعنا معه حال التصنيع مادّةً تمنع تكوّن نسبةٍ كحوليّة فيه ـ وهذا افتراض فقط ـ فإنّه لا يكون محرّماً؛ لأنّ التحريم لم يثبت للإسم بذاته، بل ثبت له بوصفه مسكراً ولو خفيف الإسكار.
وبهذا نعرف أيضاً أنّ المسكر والفقّاع ليسا نجاستين اثنتين، كما هو ظاهر بيانات الفقهاء في باب النجاسات، بل ينبغي إدراج الفقّاع في المسكر لا فصله عنه، فليس له عنوانيّة مستقلّة، بل هو مصداق من مصاديق المسكر النجس. هذا لو قلنا بنجاسة الخمر والمسكر، وقد ذكرنا سابقاً أنّه لم تثبت نجاسة الخمر ولا المسكر.
والمستند الرئيس لتحريم الفقّاع هو الروايات عن أهل البيت النبويّ، واللافت أنّ الأغلبيّة الساحقة منها ترجع لزمن الإمام الكاظم وصولاً للنصف الثاني من القرن الثالث الهجري، بصرف النظر عن روايات “الغُبيراء” التي ناقشنا في كونها مرتبطة بالفقّاع أصلاً. ويبدو لي أنّه في تلك الفترة من العصر العباسي (ما بين 150 ـ 300هـ، وخاصّة 150 ـ 254هـ) انتشر الفقّاع كثيراً ووقع حوله نقاش وجدل، إذ من اللافت عدم ظهور اسم الإمامين: الباقر والصادق كثيراً هنا، على خلاف العادة الجارية في الروايات الشيعيّة. وهذا ما يؤيّد أيضاً ما قلناه من أنّه ليس حكماً مستقلاً في الشرع، بل هو شرابٌ انتشر ووقع نقاش بين الفقهاء وكذلك بينهم وبين أهل البيت في أنّه مسكر أو لا، فكان الكثيرون يظنّون أنّه لقلّة النسبة الكحوليّة فيه ليس بمسكر، بل هو مُنعِش فقط، لكنّ أهل البيت تشدّدوا في الأمر، وقالوا بأنّ الإسكار الخفيف كافٍ في التحريم، والناس لكون الإسكار خفيفاً لم يعرفوا أنّ ما يشربونه هو مسكر، أو لم يصفوا تلك الحالة بأنّها إسكار، فتهاونوا فيه. وما كان يحقّ للناس ذلك التهاون، وما كان ينبغي عليهم الوقوع في ذلك الاشتباه.
ولمزيد تفصيل، راجع بحث الفقّاع في كتابي (فقه الأطعمة والأشربة 3: 146 ـ 184، الطبعة الأولى، 2020م).
حيدر حبّ الله
الاثنين 14 ـ 3 ـ 2022م