تحدّث الفقهاء عن موضوع خلف الوعد واعتبروا أنّه من المكروه كراهة شديدة أن يخلف الإنسان بوعده للآخرين، لكن لو وعد الآخرين بصيغة مطلقة وكان حال الوعد بانياً على عدم فعل ما وعد به، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى حرمته، وهو الصحيح. والظاهر أنّه من باب صدق عنوان الكذب عليه، إمّا لكونه قد وقع بصيغة الإخبار عن فعل الشيء في المستقبل، كما لو قال: سآتيك بالكتاب بعد ظهر اليوم؛ أو لكون الوعد بحدّ نفسه يتضمَّن إخباراً عن حالة الواعد النفسيّة القصديّة، فكأنّه يخبر بوجود نية لديه للقيام بالفعل، فإذا لم تكن هذه النية حال الإخبار موجودةً حقاً كان إخباره التضمّني هذا كذباً.
غير أنّ بعض الفقهاء استثنى من الوعد الكاذب المحرّم حالة وعد الزوج لزوجته، وربما فهم بعضهم الوعد بين الأقارب لا فقط الزوجة. غير أنّ فقهاء آخرين احتاطوا وجوباً بترك الوعد الكاذب للزوجة ومنهم: السيد الخوئي، والسيد محمّد باقر الصدر، والسيد محمّد الروحاني، والسيد علي السيستاني، والشيخ الوحيد الخراساني، وغيرهم. بل أفتى بعضهم بحرمة الوعد كاذباً مطلقاً ولو للزوجة، ومنهم: الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض، والسيد محمد محمد صادق الصدر، والسيد محمود الهاشمي، وغيرهم.
أمّا الفقه السنّي، فأخذ بمبدأ جواز الكذب بين الزوجين، أي الزوج للزوجة والعكس، لكن كرهته المالكية. وظاهر الفقه السنّي ـ على خلاف المتداول إماميّاً ـ مطلق الكذب لا خصوص الوعد الكاذب.
ولا بأس أن أشير إلى أنّ هذه المسألة رغم وجود روايات فيها، لم يتناولها فقهاء الإماميّة في بحوثهم بجديّة إلا منذ حوالي القرنين تقريباً، فيما كانت مشتهرةً أكثر في التداول الفقهي عند أهل السنّة منذ قرون.
والذي توصّلتُ إليه هو حرمة الكذب بين الزوجين وسائر الأقارب، وكذلك حرمة الوعد الكاذب بينهم مطلقاً، ما لم تكن ضرورة مبيحة. نعم يمكن القول بجواز الكذب من طرف الزوج أو الزوجة في حال الإصلاح بينهما إذا توقّف الإصلاح على ذلك، بأن يكذب الزوج بقصد أن يُصلح الخصومة بينه وبين زوجته إذا توقّف الإصلاح على ذلك، ولم يكن يلزم لاحقاً من الكذب نقيض الإصلاح. وهذا لا يختصّ بالوعد الكاذب، بل يشمل الكذب مباشرةً، كما لا يختصّ بالزوج بل يشمل الزوجة، بل لا يختصّ بالزوجين بل يشمل مطلق اثنين متخاصمين. أمّا في غير ذلك فالكذب والوعد الكاذب بين الزوجين حرام مطلقاً.
والروايات هنا شيعيّاً ثلاث كلّها ضعيفة السند، وهي واردة في خصوص الوعد الكاذب للزوجة أو للأهل ـ على الخلاف في تطابقهما وعدمه هنا ـ أمّا الروايات في هذا الموضوع عند أهل السنّة فعددها أكبر نسبيّاً، وتخضع لمناقشات سنديّة أيضاً بما فيها رواية أمّ كلثوم التي نقلها مسلم في صحيحه؛ لتعدّد تعابيرها بما يوجب الشك في أنّ المقطع محلّ الشاهد هل هو رواية مسندة أو مرسلة؟ هذا وبعض الروايات في مصادر أهل السنّة فيه الكذب من الزوجة على الزوج أيضاً، وبعضها فيه الكذب لمطلق القريب لا لخصوص الزوجة، وبعضها فيه الكذب وليس الوعد الكاذب فقط، وهكذا، ولعلّ ضمّ الروايات كلّها واعتبارها بمثابة سياق تاريخي يجعلنا نفهم أكثر المراد من الروايات الشيعيّة الثلاث.
ويُفهم من بعض روايات الترخيص في الكذب على الزوجة والواردة في المصادر السنيّة أنّ المراد به رفع حالة الخصومة القائمة أو للترضية والقبول، وهذا ما يثير احتمالاً قويّاً في أنّ نصوص الكذب بين الزوجين مجرّد مصداق من نوع جديد للكذب بهدف الإصلاح بين شخصين، من خلال تنقيح المناط وكشف المقصد، فكما يجوز الكذب للإصلاح بين اثنين يكون الكاذب غيرهما، كذا يجوز للسبب عينه فيما لو كان الكاذب أحدهما وكان كذبه بهذه النيّة. وهذا لا يختصّ بالوعد الكاذب، بل يشمل الكذب مباشرةً، كما لا يختصّ بالزوجين بل يشمل مطلق اثنين، وعليه فالقدر المتيقّن من مجموع روايات الكذب بين الزوجين منحصر بحالة قصد الإصلاح ورفع الخصومات. بل إنّ تنقيح المقصد والمناط وإلغاء الخصوصيّات عرفاً في روايات الإصلاح بين اثنين، كافٍ في توصّلنا للنتيجة عينها، بلا حاجة لروايات الكذب بين الزوجين.
حيدر حبّ الله
الأحد 26 ـ 12 ـ 2021م