ذكر غير واحدٍ من الفقهاء ـ منهم الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) ـ أنّ من موارد الترخيص في الغيبة اغتياب من ادّعى نسباً ليس له، فلو ادّعى انتسابه للنبيّ مثلاً، فإنّه تجوز غيبته، وكذا لو ادّعى أنّ فلاناً ابنه أو أخوه أو أبوه أو غير ذلك.
والمستند في ذلك هو أنّ وجوب حفظ الأنساب أهمّ في الشرع من حرمة المغتاب، فيجوز هتك حرمته بغيبته بهدف حفظ الأنساب، لا سيما وأنّ الأنساب مما يترتّب عليه نتائج عدّة في الشرع الإسلامي، كما في الإرث والمحرميّة والقصاص والحقوق الشرعيّة وغير ذلك.
ولم يوافق بعضُ الفقهاء على إطلاقيّة هذا الكلام، بل قالوا بأنّ الأمرَ لو ترتّب على ادّعاء النسب أثرٌ شرعيّ لا مطلقاً، كما أنّه لو ادّعى النسب لحفظ نفسه أو عرضه مثلاً من ظالم، ففي مثل هذه الحالات لا تجوز غيبته.
وربما لهذا وغيره لم يذكر العديدُ من الفقهاء، بعد الشيخ الأنصاري، هذا المورد من مستثنيات الغيبة.
والذي يظهر لي بذهني القاصر أنّ ادّعاء النسب ـ سواء عُلم أنّه بغير حقّ، بحيث كان المدّعي عالماً بعدم انتسابه، ولكنّه مع ذلك ادّعى، أم لم يعلم بذلك بحيث نحتمل أو نتيقّن أنّه اشتبه الأمرُ عليه، فظنّ أنّ هذا هو نسبه، وليس كذلك في الواقع أو في نظر الآخرين ـ ادّعاء النسب يمكن فرض صور محتَمَلة للغيبة فيه:
أ ـ أن يراد الترخيص بغيبة مدّعي النسب مطلقاً أو بادّعاء أنّه كاذبٌ مرتكبٌ لذنب الكذب أو نحو ذلك.
والصحيح هنا أنّه لا يجوز اغتياب المدّعي للنسب، بل إنّما يجوز إبطال دعواه على تقدير بطلانها، فإنّ إبطال دعواه بالحجج والبيّنات وبالمعايير الشرعيّة كافٍ في ردّ الآثار السلبيّة المترتّبة على دعواه غير الصحيحة للنسب، ولا يحتاج الأمر إلى غيبته أو اتّهامه بالكذب، فضلاً عن بهتانه، لكي نقوم بردّ نسبه، فتبقى الغيبة تحت عمومات ومطلقات التحريم، وبخاصّة إذا كان ردُّنا للنسب قائماً على عدم ثبوت النسب عندنا، لا على ثبوت عدمه، فالمسألة خارجة موضوعاً عن الغيبة والبهتان. وفرض جريان قانون التزاحم نادرٌ هنا، بل في بعض الموارد تكون الغيبة بردّ النسب موجبةً لإراقة الدماء، كما أشار إليه بعض الفقهاء، فتكون مقتضيات التزاحم معاكسةً لدعوى الترخيص في الغيبة، فلا يصح أخذ قانونٍ منها هنا. ودعوى أنّ تشريع اللعان يمكن أن يكون شاهداً أو مؤيّداً هنا ضعيفةٌ؛ إذ اللعان يتصل بتنازعٍ قضائيّ يراد منه نفي إلزام الشخص بولد، حيث هو يدّعى نفي الولد عنه، فكيف نقيس هذه الحال على مسألة مدّعي النسب؟! فدعوى الترخيص في الغيبة على تقدير توقّف الموقف عليها في اللعان إنّما تصحّ فيمن هو طرفٌ في التنازع القضائي لا مطلقاً.
ب ـ أن يكون المقصود هنا من الترخيص في الغيبة أنّ نفس إبطال نَسَبِهِ المزعوم هو نوعٌ من غيبته؛ إذ إبطال نَسَبِه هذا هو عيبٌ سوف يلحقه.
ولكنّ هذا الكلام غير واضح؛ فإنّ الأنساب ليست عيباً، وبخاصّة لو لم يُقصد توهينه، فنحن لا نُثبت له نسباً، بل ننفي نسباً عنه. نعم في بعض الموارد النادرة يمكن أن يتصوّر هذا الأمر، كما لو كنّا نعلم بأنّ نتائج فحوص الحمض النووي، تثبتُ أنّ نَسَبه ليس ما ادّعاه، بل هو منتسبٌ لرجلٍ داعر منحطّ اجتماعيّاً أو لشمر بن ذي الجوشن مثلاً، وهذا يُعدّ عيباً اجتماعيّاً، فالإخبار عن هذه النتائج ـ على تقدير ضرورة الإخبار عن جانب الإثبات فيها وعدم إمكان الاقتصار على جانب النفي ـ يمكن أن يكون نوعاً من التنقيص عُرفاً تبعاً للأعراف والمجتمعات.
ج ـ أن يراد أنّ إبطال النسب قد يتوقّف على اتّهام شخصٍ بالزنا أو نحو ذلك، فلنفي النسب نحن مضطرّون للغيبة.
لكنّ هذا غيرُ جائزٍ ما لم يقم دليلٌ عليه، بل يعاقَب المتَّهِمون كما ورد في الشرع، علماً أنّ تهمةً من هذا القبيل لو أريد لها أن تكون فيجب أن تكون عند القاضي لا بين الناس، وفي مثل هذه الحال يختلف الأمر جذريّاً وتكون له أحكامه الخاصّة. علماً أنّ هذا غير مرتبِط عادةً بمدّعي النسب نفسه، والمفروض أنّنا نتكلّم عن غيبة مدّعي النسب نفسه.
والخلاصة: إنّ من يدّعى نسباً ولم يثبت لدينا ما ادّعاه أو ثبت لدينا عدمه، جاز لنا إبطال نَسَبه المدّعى بهدف إبطال الآثار الشرعيّة في مورد ترتّبها عليه. أمّا ما يزيد عن مجرّد إبطال دعوى النسب، والذي يجب أن يكون بأخلاقيّة وأداء شرعي منضبط، فهو غير جائز، وليس من مستثنيات الغيبة، وعلى تقدير وجود موردٍ يجري فيه قانون التزاحم، فهو نادر ويحتاج للتحقّق من شروطه الموضوعيّة.
حيدر حبّ الله
الأحد 22 ـ 5 ـ 2022م