يذهب العديد من فقهاء الإماميّة إلى حرمة ـ وعدم صحّة ـ بيع المصحف الشريف لغير المسلم، بل ومطلق تمكينه منه، بل حرّم بعضهم بيعه للمسلم، وقالوا بأنّه لو أريد بيعه للمسلم فيمكن المعاوضة على غلاف المصحف مثلاً، فيقول له بأنّني أبيعك غلاف هذا الكتاب ويعطيه إيّاه كاملاً، ونحو ذلك. وقد استثنوا سائر الكتب الدينيّة مثل كتب الأدعية والحديث والروايات والسيرة والفقه وغيرها، فأجازوا ـ وضعاً وتكليفاً ـ بيعها وتمكين الآخرين منها ـ مسلمين وغير مسلمين ـ بلا أيّ إشكال، حتى لو كان فيها أسماء الله وآيات القرآن وغير ذلك.
وقد وقع الخلاف بين فقهاء أهل السنّة أيضاً، فأجاز البيعَ للمسلم الجمهورُ منهم، ومنع كثير من الحنابلة، وكرهه كثير من الشافعيّة. أمّا بيعه لغير المسلم فكثيرون حكموا فيه بالحرمة.
ولو أردتُ عرضَ جانب من المشهد المعاصر عند فقهاء الإماميّة، وباختصار، فيمكن القول بأنّه أجاز كثيرون بيع المصحف للمسلم، أمّا للكافر:
فبعضهم احتاطَ فيه وجوباً ولم يفتِ، من أمثال السيّد محمّد باقر الصدر، والسيّد الخوئي، والسيد محمّد الروحاني، والشيخ محمّد أمين زين الدين، والسيّد محمّد محمّد صادق الصدر، والسيد علي السيستاني، والشيخ الوحيد الخراساني. وهؤلاء المحتاطون وجوباً استثنوا حالة تمكين الكافر من المصحف بهدف هدايته.
بينما صرّح فريق آخر بجواز بيع المصحف من المسلم وغيره، ما دام لا يلزم منه هتك المصحف، ومن هؤلاء: السيد محمّد سعيد الحكيم، والسيد محمد صادق الروحاني، والشيخ محمّد إسحاق الفياض، والسيد محمود الهاشمي، وغيرهم.
والذي توصلتُ إليه ـ والله العالم ـ هو جواز بيع وشراء المصحف الشريف وغيره من الكتب الدينيّة، سواء كانت المعاملة مع مسلم أم مع غيره، وكذلك تجوز إجارته وسائر المعاملات فيه، ويجوز أخذ الأجرة على كتابته والاعتناء بشؤونه، وغير ذلك. نعم إذا كان في بيعه للمسلم وغير المسلم ما يوجب إهانته وهتك حرمته أو نحو ذلك من العناوين الثانويّة التحريميّة، حرم البيع وغيره، بل مطلق التمكين.
والأدلّة هنا في موضوع البيع للمسلم، كثيرٌ منها ـ وبخاصّة عند فقهاء أهل السنّة ـ قائمٌ على وجوه اعتباريّة وكليّات عامّة تمّ إسقاطها على موضوع البحث، وكلّها قابلة للنقاش، وكذلك اعتمدوا على مواقف لبعض الصحابة والتابعين، وإن كنت أشكّ جداً في طرح هذه القضيّة في عصر الصحابة. أمّا الأدلّة الروائيّة والحديثيّة فعمدتها وقع من طرق الشيعة إلى أئمّتهم خاصّة، وهي متعارضة في الدلالة فبعضها دالّ على الترخيص وبعضها على التحريم. وأدلّة التحريم ذات الدلالة قليلة العدد جداً وغالبها ضعيف الإسناد.
والتحليل التاريخي الذي تُسعفه بعضُ الروايات عن أهل البيت يمكن أن يوصلنا إلى أنّ المسلمين لم يعرفوا ظاهرة بيع المصاحف إلا في نهايات العصر الأموي وبدايات العصر العباسي، وأنّ هذه الظاهرة بدت ثقيلة روحيّاً على المؤمنين؛ إذ توحي بتعريض كتاب الله للمصالح الماديّة، ولهذا وردت بعض الروايات تؤكّد أنّك عندما تريد بيع المصحف فعليك الانتباه إلى أنّ مرادَك من المبيع هو الورق والغلاف ونحو ذلك، حتى لا تكون الكلمات الإلهيّة عرضة للبيع، ولهذا أيضاً ورد في بعض الروايات عن الإمام جعفر الصادق× التعبير بأنّ شراء المصحف أحبّ إليه من بيعه، بما يؤكّد هذا البعد المعنوي والخلقي في التعامل مع كتاب الله، لهذا فالقضيّة يمكن أن يفهم منها ـ على أبعد تقدير ـ مرجوحيّة أن تقصد من البيع مبادلة الكلمات بوصف ذلك نوعاً من احترام الكتاب العزيز.
وأمّا أدلّة تحريم أو إبطال البيع للكافر، فعمدتها اعتباريٌّ وإسقاط عناوين عامّة كليّة، من نوع أنّه سوف ينجّسها، أو أنّه سوف يهتك حرمة القرآن ونحو ذلك ممّا يُثبت عندهم الحكم التكليفي، ولكنّه لا يؤسّس حكماً كليّاً بل يفرض علينا التفصيل في الحالات.. أو من نوع عدم ملكيّة الكافر للمسلم فلا يملك المصحف بالأولويّة، والاستناد لقاعدة العلوّ، وغير ذلك، مما يُثبت عندهم الحكم الوضعي، وكلاهما خضع للنقاش في محلّه.. وإلا فليس هناك رواية دالّة مباشرةً على هذا الموضوع بعنوانه في حدود اطّلاعي عدا رواية عن النبيّ‘ لا تتحدّث عن البيع مباشرة، بل هي ضعيفة السند.
حيدر حبّ الله
الجمعة 24 ـ 12 ـ 2021م