واحدٌ من الموضوعات بالغة الأهميّة في قضايا السنّة النبويّة، موضوعُ السنّة المستقلّة والمؤسِّسة، أو ما يعرف أيضاً بالولاية التشريعيّة أو التفويض التشريعي، فهل يشمل دليل حجيّة السنّة تلك السنّة المؤسّسة لتشريع جديد أو مفهوم جديد، لا عين له في القرآن الكريم ولا يبدو له أثر، أم أن حجيّة السنّة تطال فقط سنن النبي‘ غير هذا النوع من السنّة التي تستقلّ عن القرآن في تقديم مستجدات دينيّة؟
وقد برز اسم أبي إسحاق الشاطبي (790هـ) في هذا الموضوع مخالفاً للجمهور ـ كما قيل ـ إذ رغم وجود بعض الخلافات بين متقدّمي علماء أهل السنّة في حجيّة السنّة المستقلّة قبل عصر الشاطبي، إلا أنّ هذا الموضوع لم يُفرد بالذكر بحثاً مستقلاً إلا في عصره؛ حيث عقد باباً له ذهب فيه إلى القول بعدم حجيّة السنّة المستقلّة، ثم تبعه من لحقه من بعده، واعتمد بعض القرآنيين أو التيار المناهض لحجية السنّة اليوم على مقولات الشاطبي هنا، ثم زادوا عليها آراءهم.
لكنّ جدلاً يلحق طبيعة موقف الذين عارضوا السنّة المستقلّة ـ غير بعض متأخري المتأخّرين ـ طبقاً لما يحدّثنا عنهم الشاطبي، بل جدل حول تحليل موقف الشاطبي نفسه، فماذا يراد من مقولة: mالسنّة المستقلّة أو المؤسِّسةn؟ هل يُراد من مقولة: «ليس من سنّة إلا ولها أصل في الكتاب» أنّ السنّة المؤسّسة التي لا أصل لها في الكتاب ليست بحجة، أم أنّ المراد من وراء هذا التنازع أن كلّ ما صدر عن النبي فله أصلٌ في الكتاب حتى لو بدا لنا أنه لا أصل له، إذ يكفي الأصل الإجمالي والدلالة العامة الإشاريّة، وفرقٌ كبير بين الرؤيتين.
وبعيداً عن هذا التنازع في تحليل مراد بعض المتقدّمين هنا، فإنّ هذا البحث طُرق أيضاً في التراث الشيعي في حقّ أهل البيت النبويّ عليهم السلام، فهل دور أهل البيت بعد النبيّ هو بيان وشرح ما جاء في الكتاب والسنّة النبويّة وتأصيله وتطبيقه على مصاديقه ونحو ذلك، أمّ أنّ حدود نشاطهم يمتدّ لتأسيس أحكام شرعيّة إلهيّة لم يسبق أن جاءت في القرآن والسنّة النبويّة إطلاقاً، بل يعدّ حديثهم عنها هو المرّة الأولى التي صدر فيها هذا التشريع من قبل المشرّع للناس؟ هذا ما اختلف فيه علماء الشيعة أنفسهم، حتى أنّ الشيخ جعفر السبحاني نقل عن السيّد البروجردي ـ فيما يبدو ـ أنّ الشيخ الصدوق (381هـ) كان يرى أنّ إطلاق تعبير (الشارع) على الإمام هو من الغلوّ.
وقد استدلّ القائلون بالولاية التشريعيّة للنبي وأهل بيته بنصوصٍ من القرآن والسنّة، كما استدلّ النافون بنصوصٍ من القرآن والسنّة.
والذي توصّلتُ إليه هو ثبوت الولاية التشريعيّة للنبيّ بمعنى إمكانيّة أن يأتي بتشريعات ينسبها لله ولا وجود لها في القرآن الكريم، وتكون جزءاً من الشريعة الإلهيّة للناس. أمّا أهل البيت ـ فضلاً عن غيرهم ـ فلم تثبت لهم ولاية تشريعيّة بهذا المعنى أو تفويض تشريعي كذلك، فهم لا يذكرون حكماً لا وجود له في الكتاب والسنّة من قَبل، بل يبيّنون ما عرفوه من القرآن والسنّة مما يتوافقون فيه مع سائر الناس أو يختلفون، وتكون مرجعيّتهم العلميّة في أنّهم القول الفصل عند اختلاف الناس في مفاد الكتاب والسنّة النبويّة.
لكنّ أهلَ البيت ـ وغيرهم أحياناً ـ يملكون أنواعاً أخرى من التفويض غير بيان أحكام جديدة لا وجود لها من قبل، ومن أمثلة ذلك ـ والأمثلة فيها بعض التداخل ـ:
أ ـ التفويض في اختيار البدائل المتوفّرة تنفيذياً وإجرائياً لتطبيق الدين وكيفيّة ممارسته وتفعيله في الحياة.
ب ـ التفويض في تشخيص موضوعات الأحكام الثانوية العامّة التي تتصل بأمر المسلمين ودينهم، من قبيل الضرر والحرج والأهم والمهمّ على المستوى العام.
ج ـ التفويض في تأسيس أحكام حكوميّة مرحلية ملزمة لكنّها ليست جزءاً من التشريع الديني، كما هي صلاحيات الحاكم الشرعي في جعل قوانين تنظيمية مرحلية تخضع للعناوين التشريعية الإلهية العامة، مثل: نظم الأمور، ومراعاة المصلحة، واستهداف المقصد الشرعي الأعلى.
د ـ التفويض الإداري، بمعنى أنّه الحاكم المخوّل إدارة المجتمع الإسلامي.
هـ ـ التفويض في كيفيّة بيان العلوم والأحكام، بمعنى أنّهم يتحيّنون الفرص ويختارون الأسلوب والطريقة المناسبة لبيان الأحكام للناس بما يحقّق خدمة الدين والمؤمنين معاً ويحافظ عليهما.
و ـ التفويض في الأعطيات والمملوكات العامّة والشخصيّة، مثل التفويض في كيفيّة تقسيم الغنائم، وفي عطايا الخمس والزكاة والفيء والجزية والخراج وغير ذلك، بما لا ينافي شرع الله تعالى.
ولهذا الموضوع فوائد كبيرة في الاجتهاد الشرعي، فمثلاً لو ثبت عن النبيّ شيء لا وجود له في القرآن الكريم ونسبه النبيُّ للشريعة الإلهيّة فهو حجّة، ويكون جزءاً من أصل الشرع. ولو نُسب لأهل البيت حكمٌ لا يحتمل ـ عقلائيّاً ـ وجوده في الكتاب والسنّة النبويّة بحيث لو كان لبان، ثم ظهر في عصر الإمام الباقر أو الجواد مثلاً في أوّل مرّة، ففي هذه الحال ينخفض الوثوق بكون هذا الحكم من أصل الشرع وترتفع جداً احتماليّة كونه حكماً ولائيّاً تاريخيّاً. وينتُج عن ذلك أيضاً أنّه لا معنى لممارسة أهل البيت لنَسخ التشريعات الواردة في الكتاب والسنّة.
وهذه النتائج التي توصّلتُ إليها تترك أثراً واضحاً على نتائج بحثيّة في الفقه الإسلامي يخرج الباحث من خلالها بمواقف متعدّدة مخالفة للمشهور.
وقد بحثتُ موضوع السنّة المستقلّة أو الولاية التشريعيّة للنبيّ وأهل بيته بشيء من التفصيل، وذلك في كتابي (حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 503 ـ 569، الطبعة الأولى، 2011م)، فراجع.
حيدر حبّ الله
الاثنين 13 ـ 6 ـ 2022م