تعدّ مسألة العقود والمعاملات المستحدَثة، من أهمّ بحوث فقه المعاملات والتجارات المعاصر؛ لأنّ هذا البحث يحدّد حركة الفقيه في التعامل مع مستجدّات العقود المالية المعاصرة، فقد شهد العالم أنماطاً جديدة من العقود والمعاملات، وواجه الفقيه هذه العقود الجديدة فأراد أن يعرف حكمها، وهنا تنوّع منهج الفقهاء في التعاطي مع هذا النوع من المعاملات والعقود، وكان الأبرز اتجاهان:
الاتجاه الأوّل: وهو الاتجاه السائد، بل لعلّه المتفق عليه إلى أواسط القرن الثالث عشر الهجري، حيث ذهب أنصاره إلى أنّ أي معاملة تظهر في حياة البشر فهي باطلة ما لم يقم الفقيه بتحويل ـ أو إعادة ضبط ـ مضمونها العقدي والمعاملي إلى عقد من العقود القديمة زمن النصّ، كالبيع والإجارة والحوالة والكفالة والمضاربة وغير ذلك، وتسمّى هذه العقود بالعقود المتعارفة أو المعهودة أو المسمّاة. فلكي نصحّح معاملةً جديدة في حياة البشر علينا تصويرها أو تحويلها ـ إن أمكن ذلك ـ إلى صيغة معاملة قديمة مصحَّحة، ونُجري عليها أحكام تلك المعاملة، وإلا فهي باطلة. وبهذا عالج كثيرون قضايا التأمين والبيع الزماني وبعض مسائل البنوك والمصارف والنقود و..
الاتجاه الثاني: وقد رأى أنصاره أنّ قاعدة تصحيح المعاملات لا تختصّ بالعقود القديمة، بل تستوعب ـ مبدئيّاً ـ كلّ عقد يقع بين الناس، ولو كان مستحدَثاً. ونجد بدايات هذا الاتجاه في النصف الأوّل من القرن الثالث عشر الهجري، لكنّه شهد إقبالاً كبيراً منذ زمن السيّد كاظم اليزدي (1337هـ) وإلى يومنا هذا.
والذي توصّلتُ إليه هو صحّة الاتجاه الثاني، فليس المطلوب من الفقيه تحويل العقد الجديد إلى عقدٍ من العقود القديمة، وإنّما المطلوب منه خطوتان هما: التحقّق من عقديّة العقد الجديد وأنّه يصدق عليه عنوان العقد، ثمّ التحقّق من عدم احتوائه على ما حكم الشرع بمنعه أو بالبطلان معه كالربا. وبهذا يُفتح بابٌ كبير لتخريج وتكييف الكثير من مستجدّات فقه المعاملات المعاصرة. بل أميل جدّاً إلى ما طرحه الشيخ محمّد جواد مغنيّة (1400هـ)، من أنّ منهج الشريعة في التعامل مع المعاملات لم يقم على إبداء نظر في العقود والاقتصاديّات ليصحّح هذا العقد أو يبطل ذاك، بقدر قيامه على وضع الضوابط والمحاذير والموانع والتوجيهات العامّة، مثل حرمة الربا و.. فإذا تمّت مراعاة حرمات الله وحدوده المعيّنة، فإنّ شأن التوافقات شأنٌ بشريّ قامت عليه حياة العقلاء فيترتّب عليها ما يرتّبه العقلاء عليها، مادام لا ينافي الشرع الحنيف.
راجع بحث «قاعدة الصحّة في العقود، الاتجاهات الفقهيّة بين التعميم والتخصيص»، والمنشور في كتابي المتواضع (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 261 ـ 285).
حيدر حبّ الله
السبت 16 ـ 10 ـ 2021م