لفكرة العدل والعدالة حضور واضح في الفقه الإسلامي الذي يكاد يوحّد في التوظيف بين مفردة العدل والعدالة، وغالباً ما كان التركيز فيه قائماً على محورين:
1 ـ العدالة بوصفها سمةً شخصيّة، وهذا ما نجده في حديث الفقهاء عن شرط العدالة في المرجع والقاضي وإمام الجماعة وإمام المسلمين والشهود والرواة وغير ذلك.
2 ـ العدالة بوصفها سمةً تنفيذيّة، وهذا ما نجده حاضراً في حديثهم عن السياسة الشرعيّة وعمل وليّ الأمر وفي العمل القضائي، وفي إدارة الحياة الزوجيّة والأسريّة في العدل بين الزوجات أو الأولاد، وهكذا..
غير أنّ هذا المسار الفقهي لم يقترب بشكل جادّ يوماً من جعل العدل قاعدة أصوليّة في الاجتهاد الفقهي، بمعنى العدالة التي تمثل أساساً في معرفة الحكم الشرعي نفسه، وفي هذا السياق نلاحظ موضوعات ذات صلة من نوع مرجعيّة العقل في المستقلات العقليّة عند أصوليّي الشيعة، وتجربة المصالح المرسلة في الاجتهاد السنّي، وهي تجربة ساندتها نظريّات من نوع الاجتهاد الذرائعي (سدّ الذرائع)، وغيره.
وفي العصر الحديث تنامى الحديث عن مرجعيّة العدل والعدالة في الاجتهاد، بحيث يتمّ ـ على سبيل المثال ـ عرض الفتوى الشرعيّة على قانون العدل فإذا وجدناها مخالفةً له، طرحناها أو تأوّلنا النصوص تاريخيّاً أو غير ذلك. وتظهر مؤشرات جزئيّة جدّاً لفكرة العدل في الاجتهاد عند بعض الشخصيّات مثل الشيخ مرتضى مطهري والشيخ محمّد مهدي شمس الدين، غير أنّ الأبرز هنا كان الشيخ يوسف الصانعي حيث توصّل لمجموعة من النتائج الفقهيّة عبر قانون العدل، وأحياناً إلى جانب أدلّة أخرى، فحكم ـ مثلاً ـ بوجوب طلاق الخلع؛ لأنّ عدم الوجوب هو ظلمٌ للمرأة، وحكم بتساوي المسلم وغيره والرجل والمرأة في القصاص والدية للسبب عينه، وغير ذلك من التطبيقات التي مارسها هنا.
فقانون العدل ـ بما له من صفة أصوليّة (أصول الفقه) ـ يعني أنّ الأخذ بصدور أو ظهور ودلالة أيّ نصّ ديني أو إطلاقه أو عمومه الزماني والأفرادي والظرفي والحالي والمكاني.. رهينٌ بأن ننظر في الفتوى الناجمة عنه، فإن كنّا نرى اليوم مثلاً ـ بمنظار عرفي أو زمني أو غيره ـ أنّ هذه الفتوى فيها ظلمٌ للمرأة أو الطفل أو العامل أو الرعيّة أو الإنسان أو الحيوان أو غير ذلك، قلنا بأنّ هذا الحكم إمّا لم يصدر من الشريعة أصلاً، أو صدر ولكن كانت له مبرّرات ظرفيّة مؤقّتة، فلا نأخذ بإطلاقه ولا بعمومه ولا نصدر فتوى كليّة على أساسه.
والذي توصّلتُ إليه هو رفض الفكرة أعلاه، والتي أطلقتُ عليها «نظريّة العدالة بالحدّ الأعلى»، مع الإيمان بفكرة أخرى بديلة، وهي التي أطلقتُ عليها «نظريّة العدالة بالحدّ الأدنى»، وخلاصة الخلاصة هنا، مع الاعتذار عن اضطراري لضغط العبارة وتكثيفها، هو الآتي:
1 ـ إنّ الدين بطرحه العدل أساساً لا يؤسّس له مفهوماً جديداً في المعنى العام له، والذي هو أقرب للمعنى اللغوي، لكنّ من حقّه أن يشرح معالم رؤيته للعدالة؛ لأنّ العدالة ليست مفهوماً واضحاً بديهيّاً في تجلياته ومصاديقه، بل قد اختلفت فيه كبرى المدارس العالميّة فكلٌّ يرى منظومته هي التي تمثل العدالة ومنظومة الآخر لا تمثلها.
إنّ الأديان والمشاريع الإنسانيّة الإصلاحيّة الكبرى، من حقّها ومن الطبيعي فيها ـ وسط زحمة الاختلاف في العدالة والظلم مفهوماً ومصداقاً ـ أن يكون لها رأي وتصوّر، وهذا متوقّع جداً، فالأديان جاءت لخلاص الإنسان من انحرافاته وتلويثه لفطرته؛ فمن الطبيعي أن تعيده للفطرة السليمة التي من الممكن أن تكون تلوّثت بفعل تراكم الأزمنة والأعراف الفاسدة، التي قد تفرضها السلطات والمصالح وقوى الشرّ في وجوده التاريخي.
هذا يعني أنّ الدين يصحّح تصوّرات الإنسان عن الحقّ والخير، عندما تكون هذه التصوّرات قد انحرفت بفعل تأثير المصالح والهوى، حتى لم يبقَ منها إلا القليل، إن لم نقل بأنّ الدين يأتي ليضيف للإنسان وعياً عن الحقّ والخير لا يملكه، ولهذا ركّزت النصوص القرآنية كثيراً على مفهوم: الله يعلم وأنتم لا تعلمون/علمُكم قليل..
ونتيجة هذا الأمر أنّ الشيء المنطقي في هذا السياق، أن نقرأ الحركة الإصلاحيّة للأديان كما نقرأ الحركات الإصلاحيّة الإنسانيّة الكبرى عبر التاريخ، نقرأها في عناصر إصلاحها، فهي لم تأت مفرّغةً من كلّ شيء، بل حملت معها إصلاحات وتصحيحات للمسارات والأفكار والقيم التي تتعرّض ـ بفعل طغيان البشر وتضارب مصالحهم، أو وقوعهم في أخطاء التقدير والحساب نتيجة محدوديّة اطّلاعهم ـ للخطر والتشويه والتحريف والنقصان باستمرار.
إذا جاءت الماركسيّة تطالب بالعدل والخير والعدالة الاجتماعيّة وتأمر بها وتحثّ عليها، فليس من المعقول أن نكبّلها بفهم العرف السائد الذي جاءت هي لإصلاحه، ثم نطرح جانباً كلّ ما خالف فهم هذا العرف أو الأعراف القادمة الآتية والتي لا يعلمها إلا الله، بحجّة أنّها أمرت بالعدل، ولا معنى لأمرها بالعدل إلا إحالة المرجعيّة للعرف.. إنّ الخطوة الناقصة هنا هي في ضرورة فهم تصوّرات الماركسيّة عن العدالة ورؤيتها لها وحدودها وأصولها وتطبيقاتها، لكي نفهم سائر نصوصها من خلال تصوّرها هي عن العدالة وسط زحمة الاختلاف في تفسير العدالة وآليّات تطبيقها وتجلّيها الميداني بين البشر.
هذا يعني أنّ الخطوة الأكثر منطقيّةً هنا، بعد فهم هذه السياقات، أن نذهب نحو الدين نفسه ونصوصه؛ لنفهمه فهماً داخليّاً، ونفهم العدالة وتعريفها وصورتها وتجلّيها الميداني عنده، من داخل منظومة النصوص، ثمّ أقول: إنّ العدالة، في فهم الإسلام لها، هي كذا وكذا في قضايا الحياة السياسيّة، وهي كذا وكذا في قضايا الأسرة إلى غير ذلك من الأمور.
بناءً على هذا كلّه، فعلينا في المرحلة الأولى أن نذهب للدين نفسه لاكتشاف رؤيته العليا والدنيا للعدالة، ونحدّد مفهومه لها، لا أن نحدّد المفهوم اللغوي فحسب! وهذا يعني أنّ الخطوة الأولى هنا هي الذهاب خلف السبل والطرق الموضوعة دينيّاً وعقليّاً لاكتشاف موقف هذا الدين، اكتشافاً تاريخيّاً خالصاً، بعيداً عن تقويمنا له، فكأنّنا نتعامل هنا مع موقف مدرسةٍ فكريّة ظهرت قبل ألف عام، حيث نذهب لنصوصها، فإذا أمرتنا بالالتجاء إلى نصوصها اليقينيّة والظنيّة ضمن شروط وحدود، فنحن في الخطوة الأولى نرجع للنصوص الكاشفة التي اعتمدتها هذه المدرسة لمعرفة الآخرين لأفكارها، وهذا هو السبيل الأوّل الضروريّ في هذه القضيّة.
ولهذا نقول بأنّ العرف لا يكون حاكماً على مرجعيّة النصّ في لوح الواقع؛ لأنّ هذه الحكومة لا تعني سوى تكبيل يد النصّ عن الإفصاح عن نفسه ورؤيته، والمفروض منطقيّاً ـ بالطريقة التي شرحناها آنفاً ـ أن يكون النصّ مُفْصِحَاً عن رؤيته وقناعته في العدالة ومعالمها.
إنّ الطريقة التي اعتمدناها هي طريقة استقرائيّة، وذلك أنّنا نكوّن تصوّرات هذا الدين عن العدالة والحقوق، من خلال مراجعة أغلب نصوصه، بما فيها كلّ نصوصه اليقينيّة، فإذا واجهنا بعد ذلك نصوصاً ظنيّة في الصدور أو الدلالة تقدّم عيّنةً للسلوك تتنافى مع مجمل الخارطة المرسومة في الأدلّة اليقينيّة وعُمدة الأدلّة الأخرى، شكّكنا في صدورها أو دلالتها أو إطلاقها؛ لأجل معادلة داخل ـ دينيّة هذه المرّة.
2 ـ إذا عارضت المعطيات يقيناً عقليّاً واضحاً وجازماً، بالمعنى الاصطلاحي لكلمة mالعقليn هنا، فلا شكّ في ترك المعطيات النصيّة؛ لأنّ كلّ دليل مقيّد لبّاً بعدم مناقضة واضحات العقول العمليّة، أو يمكن تخريج القضيّة بأنّ مواجهة معطيات واضحات العقول العمليّة لا يكون بمثل نصٍّ أو اثنين، بل بحجمٍ كبير من المعطيات المفيدة لليقين. وهنا يظهر الفرق بين مرجعيّة العرف أو الأزمنة في مفهوم العدالة ومرجعيّة العقل المطلقة.
3 ـ إذا رأينا أنّ معطياتٍ ظنيّة تعارض الارتكاز العقلائي العامّ في أمرٍ يتصل بالعدالة والظلم مفهوماً أو مصداقاً، ونعني بالارتكاز العقلائي العامّ ليس الأعراف، وإنّما القيم أو السلوكيّات التي تعتبر عند جميع الأعراف حقيقةً أخلاقيّة ثابتة، وقلنا بأنّ الارتكازات العقلائيّة التي من هذا النوع مغايرة لأحكام العقل العملي، فإنّ النصوص تولد مقيّدةً بعدم مخالفة هذا الارتكاز، أو فقل: إنّ مواجهة هذا النوع من الارتكازات يحتاج لحجم كبير من النصوص وتأكيدات صارمة يصعب معها القبول بمثل بضعة نصوص قليلة مع توافر الدواعي للنقل، لو كان يوجد غير هذه الكميّة القليلة من النصوص واقعاً.
4 ـ لو ثبت أنّ أمراً ما يعدّ في عُرف عصر ومكان النزول أو الصدور من واضحات مصاديق العدل أو الظلم أو المعروف أو الإحسان أو الخير أو الشرّ أو نحو ذلك، فإنّ ورود دليل غير يقيني يغيّر هذا التصوّر لا يغدو حجّة:
إمّا اعتماداً على أنّ تغيير هذا الوضوح العرفي يحتاج لتأكيدات كثيرة، ولمّا لم تصلنا سوى بضعة نصوص قليلة مثلاً ولو كان فيها صحيح السند، فإنّ هذا يكشف عن عدم الوثوق بصدورها أو عدم الوثوق بدلالاتها.
أو لأنّه لو كان النصّ الذي يعارض هذه الأمور العرفيّة الواضحة آنذاك ينحو في معارضتها منحى المعارضة بمجرّد الإطلاق؛ فإنّ هذه المعارضة ـ خاصّة لو كانت في نصوص قليلة ـ لا تنفع؛ لأنّ الذهن العرفي سوف يجعل وضوح الفكرة عنده بمثابة قرينة متصلة لبيّة للتقييد، فإذا أراد الشارع رفض هذا المرتكز الواضح لزمه التبيين بنصّ مباشر، لا عبر الإطلاق.
وهذه الطرق الثلاثة الأخيرة تدخل النشاط الذهني البشري على المستوى العقلي والعقلائي والعرفي الزمني الخاصّ، في سياق موقع الهيمنة على النصّ ضمن منظومة لغويّة، تكشف عن موافقة الدين على هذه المعطيات البشريّة، بما يحقّق شكلاً من التوفيق بين الاعتزال والأشعريّة في المجال الشرعي.
5 ـ في كلّ مورد لا نجد للشرع فيه تحديداً منافياً لتحديد العرف أو العقل أو العقلاء، فإنّنا نأخذ بتحديد هذه الثلاثة لمصاديق المفاهيم الكليّة الملقاة إليها، كما قال إمام المقاصديّين الشاطبيُّ، ولو اختلفت معطيات العقل أو العلم اليقينيّة عن معطيات العرف أو العقلاء، قدّم العقل؛ لأنّ المفروض أنّ هذه العناوين (العدل ـ القسط..) يراد تحقيق معنوناتها الواقعيّة في الخارج، والعقل ما دام قطعيّاً ولو بالدقّة، فيقدّم على العرف وغيره في عملية التحديد هذه؛ لأنّ غيره لا يبلغ درجته في اليقين.
6 ـ إنّ كلّ ما قلناه إنّما ينفع في طرف النفي لا في طرف الإثبات، بمعنى أنّ دور العرف والعقل والعقلاء هنا يمكن أن نجده في نفي أمرٍ يحتمل أنّه من الدين، كما في حالات تعيينهم للظلم، ضمن الشروط المتقدّمة، أمّا في العناصر المثبتة مثل تعيين العقل والعرف والعقلاء لمصداق من مصاديق العدل أو البرّ أو الإحسان أو غير ذلك؛ فإذا كان هذا المصداق سائداً في عصر النزول ملتفتاً إليه أمكن جعل الأمر بالعدل في الشريعة أمراً بهذا المصداق إذا كان واضحاً وكأنّه مشار إليه في النصوص العامّة، أمّا المصاديق الحادثة التي لم يكن لها وجود في عصر النصّ وقريبه، بل هي موضوعات مستجدّة، فإنّ تعيين العرف والعقلاء والعقل لها لا يوجب نسبة المؤدّى والناتج للشريعة، بناء على مسلكنا في عدم شمول الشريعة؛ وإنّما غايته أنّ الشريعة تأمرنا بالعدل، أمّا أنّ هذا المصداق الجزئي تأمرنا به الشريعة بعنوانه، رغم عدم وروده في النصوص، فهذا غير معلوم، فننسبه للعرف أو العقل أو العقلاء لا للشرع، ولا ننسب للشرع سوى الأمر بكليّة العدل، دون الكشف عن مصداقه الجديد هذا، كما شرحنا ذلك مفصّلاً في كتابنا «شمول الشريعة».
وبهذا يمكن لنا القول بأنّنا نختار قاعدة العدالة بحدّها الأدنى، لا بحدّها الأعلى.
ولمزيد مراجعة، يمكن الاطّلاع على البحث المفصّل حول هذه القاعدة والمناقشات، في كتابي (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني: 119 ـ 170، الطبعة الأولى، 2020م).
حيدر حبّ الله
الأربعاء 13 ـ 4 ـ 2022م