الجزية مفهوم معروف في الفقه الإسلامي، وخلاصتُه المكثّفة هي ضريبة تُفرَض على أهل الكتاب (اليهود والنصارى، وعمّم بعضُ الفقهاء للمجوس والصابئة) بعد إخضاعهم لسلطة الدولة المسلمة والسيطرة على أراضيهم، سواء اعتدوا من قَبْل على بلاد المسلمين أم لا، فأهل الكتاب إذا فُتحت بلادهم أُلزموا إمّا الإسلام أو الحفاظ على ديانتهم مع الخضوع للدولة المسلمة وتُفرض عليهم الجزية صاغرين في هذه الحال. هذا هو المفهوم السائد المعروف، وعليه جمهور فقهاء الإسلام بمذاهبهم. وثمّة بحوث وتفاصيل عديدة هنا يمكن مراجعتها في مطوّلات الكتب الفقهيّة.
وقد حاول بعضُ العلماء والمفكّرين في العصر الحديث إعادة قراءة موضوع الذمّة والجزية، وطرحت وجهات نظر، كثيرٌ منها ـ إن لم يكن جميعها ـ يمكن أن يخضع للنقاش والتفنيد عند قراءته وفق المعايير الاجتهاديّة الفقهيّة.
والذي توصّلتُ إليه بعد دراسة فقهيّة مطوّلة لموضوع الجزية، هو الآتي:
1 ـ إنّ الجزية مفهومٌ عقابي فقط، يُجعل في حقّ جماعة من أهل الكتاب فسقوا عن الحقّ في دينهم واعتدوا كذلك على المسلمين، فإنّ المسلمين ملزَمون بمقاتلتهم لردّ عدوانهم بلوغاً لهزيمتهم وفرض جزية عليهم صاغرين؛ تأديباً لهم ولغيرهم كي لا يجرؤوا على العدوان على المسلمين، فالجزية أشبه بعقوبات العدوان وتعويضاته، ولا تشمل كلّ من هو غير مسلم ولا كلّ مَن هو مِن أهل الكتاب، بل تختصّ بالمعتدين منهم. وهذه النتيجة تأتي من شبكة العلاقة البحثيّة المتواشجة بين نظريّة رفض شرعيّة الجهاد الابتدائي ومجموع النصوص الواردة في فقه الجزية في الكتاب والسنّة.
2 ـ إنّ العلاقة بين الجزية والذمام ـ بمعناه الخاصّ (=المواطنة) ـ غير مطّردة؛ لأنّ الجزية قد توضع على غير المسلم الذي يعيش داخل بلاد المسلمين، لو اعتدى على المسلمين، وقد توضع عليه وهو يعيش خارج بلاد المسلمين وسلطة دولتهم ونفوذها وسعتها الجغرافيّة.
3 ـ إنّ الصَّغَار المأخوذ في الجزية وفق الآية الكريمة، ليس سوى تعبير عن نفس دفعهم لها في سياق خضوعهم منهزمين لإرادة المسلمين، عقوبةً لهم على عدوانهم.
4 ـ ليس هناك تحديد كمّي ولا زماني للجزية، بل هي تُفرض ـ كماً وكيفاً وزماناً ـ بتعيين السلطة الشرعيّة في بلاد المسلمين، فهي حكمٌ مطلوب في نفسه، لكن هل عندما نضع الجزية على جماعة يلزم أن يكون وضعها عليهم إلى يوم القيامة؟ هذا ما نفيناه، بل الصحيح أنّه يُرجع في هذا الأمر لإرادة السلطة السياسيّة، تبعاً لمعايير العدل والمصلحة، فقد توضع الجزية لسنة أو عشر سنوات، وقد يكون مبلغها المالي كبيراً وقد يكون قليلاً وهكذا، فلابدّ من وضعها، لكنّ وضعها لا ىعني تأبيدها بالضرورة، ولا تحديدها كمّاً وكيفاً، بل زمانها وكمّها وكيفها هو حكم ولائي (سلطاني) زمني في هذه الحال، قابل للوضع والرفع وكذلك للتعديل دوماً.
لمزيد توسّع، راجع بحثي الفقهي حول الجزية في كتابي المتواضع (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني، دراسة في ضوء النصّ الإسلامي والمسيحي: 548 ـ 619، الطبعة الأولى، 2020م).
حيدر حبّ الله
الاثنين 15 ـ 11 ـ 2021م