رغم أنّ عدداً غير قليل من الفقهاء عبر التاريخ لا نجد له موقفاً واضحاً منصوصاً من التورية، من حيث الحلّية والحرّمة في ذاتها، لكنّ الكثير من الفقهاء يميّزون بين الكذب والتورية في الحكم، فيرون عدم شمول أدلّة حرمة الكذب للتورية؛ لأنّهما أمران مختلفان، ويؤيّدون كلامهم هذا أحياناً ببعض الروايات. بل مال بعض الفقهاء لتفسير موارد إفتاء أهل البيت تقيّةً على أنّها من التورية حتى لا ينسبوا لهم الكذب في بيان أحكام الشريعة. وقد اعتبر السيد الخوئي في بعض استفتاءاته أنّ موارد التورية هو كلّ ما ينفعك أو يدفع عنك الضرر. أمّا أهل السنّة فالتورية التي لا مرجّح لها أو لعدمها، وقعت موقع الخلاف بينهم فحرّمها بعضهم وأجازها آخرون، وفصّل قومٌ بين الإكثار منها فلا يجوز، وعدمه فيجوز، إلى غير ذلك من الأقوال.
وخالف بعضٌ قليل من العلماء هنا في أصل المسألة، فاعتبروا التورية كذباً أو محكومةً بحكم الكذب، فتكون محرّمة إلا عند الضرورات أو وجود المزاحم الأهمّ أو إصلاح ذات البين ونحو ذلك، ومن هؤلاء: الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1228هـ) في شرح القواعد، والسيد محمد جواد العاملي (1226هـ) في مفتاح الكرامة، والشيخ النجفي (1266هـ) في بعضٍ من كلماته في جواهر الكلام دون بعض. وفيما فصّل المحقّق الرشتي (1312هـ) في كتبه الفقهيّة بين بعض أنواع الحلف توريةً فتحرم، وبين غير الحلف مع بعض آخر من الأنواع الأخرى للحلف، فيجوز، اعتبر في بحوثه الأصولية بوضوح أنّ التوريةَ كذبٌ. ويظهر من الميرزا القمي (1231هـ) في القوانين اعتبار التورية كذباً حقيقةً، وهو ما يفهم من بعض عبارات السيد اليزدي (1337هـ) في حاشية المكاسب. ورأى السيد علي الطباطبائي (1231هـ) في الرياض أنّ التورية لا تخرج الكلام عن الكذب، لكنّها تقرّبه من الصدق.
ومن المعاصرين الذين يرون حرمة التورية: السيد كاظم الحائري، والشيخ محمّد الصادقي الطهراني، والشيخ محمّد القائيني. وفي الوقت الذي يظهر من بعض استفتاءات الشيخ مكارم الشيرازي الترخيص في التورية مطلقاً، غير أنّه فصّل في بحوثه الاستدلاليّة بين نوعين: تارة يكون اللفظ بذاته يحتمل معنيين، فتطلقه أنت وتريد أحدهما، ويفهم الآخرُ المعنى الآخر، وأخرى اللفظ لا يُفهم منه إلا معنى واحد، وأنت تُطلقه وتريد شيئاً آخر في ذهنك، فالأوّل تورية جائزة، لا يشملها دليل الكذب، وفيها نصوصٌ مرخّصة. أمّا الثاني فتورية محرّمة؛ ولهذا يرى أنّ مصاديق التورية الجائزة عنده قليلة، بينما هي عند المشهور كثيرة.
ومن الواضح أنّ جميع الذين يجيزون التورية مطلقاً أو في الجملة، يحرّمونها لو كانت تستلزم محرّماً آخر، كما لو تضمّنت شهادة الشاهد في المحكمة توريةً تسلِب صاحبَ الحقّ حقّه، أو توقع ظلماً على أحد، وهكذا.
وقد شغلني موضوع التورية سنوات طويلة، وبخاصّة من زاوية منهج الفقهاء وطريقتهم في مقاربة موضوعٍ من هذا النوع، وكذلك من زاوية فكرة العلاقة بين الفقه والأخلاق، وأعدت النظر والتأمّل فيه مرّاتٍ عدّة، والذي توصّلتُ إليه في كلّ مرّة ـ والعلم عند الله ـ هو حرمة التورية حيث يكون الكذب محرّماً، وجوازها حيث يكون جائزاً، كما إذا كان مزاحم أهمّ أو عند الضرورة أو لإصلاح ذات البين أو نحو ذلك.
والذين يحرّمون التورية تارةً ينطلقون من كونها كذباً واقعاً، وأخرى من اعتبار العرف والعقلاء لها كذباً، وإن لم تكن كذباً بالنظر الدقيق، وثالثة يستخدمون قواعد من نوع إلغاء الخصوصيّة عرفاً، أو مناسبات الحكم والموضوع، أو الفهم الارتكازي العقلائي، أو المنهج المناطي التعليلي من خلال مجموعة قرائن، أو غير ذلك. وما ذكره القائلون بجواز التورية من روايات إمّا ضعيف السند أو ضعيف الدلالة من وجهة نظر المحرِّمين، والبحث يحتاج لبسطٍ لا يسعه هذا المختصر.
أمّا التمييز الذي ذكره الشيخ مكارم الشيرازي، فهو جيّد، والصورة التي أجاز فيها التورية هي في الحقيقة خارجة عن محلّ النزاع في التورية؛ لأنّ محلّ النزاع في التورية ليس في مطلق فهم المخاطَب غير ما قصده المتكلّم، بل في كون الكلام بحسب دلالته النوعيّة ظاهراً فيما فهمه المخاطَب، فما نقصده من الأوّل بموضوع بحث التورية هنا ـ من حيث الحلّية والحرمة ـ هو إطلاق المتكلّم كلامَه الذي يُفهم لنوع الناس بمعنى يكون احتمال عدمه مَلغيّاً بالنظر العرفي، فيما يقصد المتكلّم في ذهنه شيئاً آخر، وإلا فالصورة التي رخّص فيها الشيرازي التورية لا ينبغي الشكّ في جوازها. ففرقٌ بين أن يسألك شخص طرق الباب ليسأل عن والدك، فقال: هل والدك موجود؟ فتجيبه: لا، ليس موجوداً. وتقصد أنت أنّه غير موجود على كوكب المرّيخ مثلاً، وبين تلك القصّة التي يسأل فيها السلطان شخصاً: مَن الخليفة بعد النبيّ؟ فيجيبه: من بنتُه في بيته، وهو جواب يحتمل بقوّة أنّه يريد أبا بكر، كما يحتمل إرادة عليّ بن أبي طالب، فما قاله الشيخ مكارم الشيرازي صحيحٌ من حيث النتيجة.
حيدر حبّ الله
الأحد 5 ـ 12 ـ 2021م