المتداول في كلمات الفقهاء ـ الشيعة والسنّة ـ الذين تعرّضوا لهذه المسألة هو حرمة أن تُدخل المرأةُ أو تسمح بدخول منيّ رجل ـ غير الزوج ـ في فرجها مطلقاً، سواء حملت منه أم لا، وسواء كانت المرأة متزوّجةً أم لا، وسواء كان ذلك برضا زوجها ـ كما لو كان عقيماً ـ أم لا، وسواء كان المنيّ منيَّ رجل من محارمها أم لا، وسواء عُلم صاحب المنيّ أم لا، وسواء صاحَبَ ذلك بعض المحرّمات كالنظر واللمس المحرَّمَين أم لا، وهكذا.
وبعض الفقهاء بنى أصل هذه المسألة على الاحتياط الوجوبي، مثل السيد محمّد الروحاني، والسيد محمود الهاشمي في رسالته العمليّة، وإن كانت بعض استفتاءات السيد الهاشمي صريحة في التحريم بنحو الفتوى. أمّا السيّد علي الخامنئي فأفتى صريحاً بجواز تلقيح المرأة بمنيّ الرجل الأجنبي. وكذلك أفتى السيد كمال الحيدري بالجواز، محتاطاً وجوباً فيما لو كان المنيّ من أحد المحارم.
وذهب السيّد علي السيستاني إلى حرمة التلقيح بماء الأجنبي، لكنّه قال بأنّه لو تمّ أخذ البويضة من المرأة والحويمن من الرجل وجرى التلقيح خارج الرحم، جاز إدخال البويضة المخصَّبة إلى الرحم في هذه الحال، فالتخصيب داخل الرحم غير التخصيب خارجه عنده، أو فقل: إدخال المنيّ في الرحم مشمولٌ لدليل النهي عنده، أمّا إدخال البويضة المخصَّبة بالمنيّ فلا؛ لعدم صدق المنيّ عليها. وإن كان ظاهر استفتاءاتٍ أخرى له هو التحريم على الأحوط وجوباً حتى في هذه الحال. والظاهر أنّ الأوّل عنده مصداق لإراقة الرجل ماءه في رحم امرأةٍ لا تحلّ له، فيما الثاني لا يصدق عليه ذلك، فيكون مشمولاً لدليل البراءة.
ومن الواضح للفقهاء جميعاً هنا أنّ فتاواهم هذه ناظرة للعمليّة في حدّ نفسها، أمّا لو كانت تستدعي محرّماً من المحرّمات، مثل النظر المحرّم أو اللمس كذلك، فإنّهم يقولون ـ جميعاً ـ بالحرمة من هذه الناحية.
والذي توصّلتُ إليه هو عدم ثبوت حرمة تلقيح المرأة بماء الرجل الأجنبيّ، سواء كان ذلك مباشرةً أم كان عبر البويضة المخصَّبة خارج الرحم، لا فرق في ذلك، ما لم يلزم منه محرّمٌ آخر أو يطرأ عنوان ثانوي تحريمي. نعم مقتضى الاحتياط الشديد ـ إن لم يكن هو الأقوى ـ حرمة ذلك إذا كان الماء من أحد المحارم، وكان بقصد تولّد الولد منه أو مع العلم بحصول ذلك.
هذا، وقد استندوا هنا:
تارةً لآيات حفظ الفروج من حيث كونها مطلقة للزنا وغيره.
وأخرى للنصوص الدالّة على حرمة تضييع المني أو إفراغ وإقرار الرجل منيَّه في رحم امرأةٍ لا تحلّ له..
ولكنّ هذه الآيات والروايات منصرفة عرفاً ـ بملاحظة فضائها اللغوي التاريخي ـ للزنا وأمثاله، وتحميل النصوص ما هو فوق طاقتها أمرٌ غير عرفي. ونصوص تضييع المني غير ثابتة، بل معارَضة بمثل نصوص جواز العزل. بل الروايات هنا لا تزيد عن قوّة خبر آحادي؛ لأنّ أغلبها ضعيف الإسناد على قلّتها، فضلاً عن مناقشات أخرى لا يسع المجال للتعرّض لها.
وثالثة للنصوص الدالّة على الاحتياط في الفروج. وعُمدتها متصل بالشبهات الموضوعيّة دون الحكميّة، بل لا يُعلم تأسُيسها لقاعدة كليّة حاكمة على أصل البراءة، وإلا لزمهم تحريم الكثير مما حكموا بحليّته.
ورابعة لدعوى وجود علّة تحريم الزنا هنا، من نوع اختلاط الأنساب. وهذا مقبول غير أنّه يفرض جعل هذه العمليّة منضبطة موثّقة معلنة وواضحة، لا أنّه يفرض تحريمها بالمطلق؛ إذ التحريم المطلق أخذاً بهذا التعليل يحتاج إلى كون العلّة موجودة نوعاً في مثل هذه الموارد، أمّا لو كانت موجودة قليلاً فإنّ التحريم يتبع الحالات لا العنوان العامّ، كما بحثناه في الاجتهاد المقاصدي والمناطي.
وخامسة للإجماع والتسالم. ولكنّ هذه المسألة قلّ تعرّض المتقدّمين لها، ولو سلّمنا فالمدرك فيها واضح.
وسادسة، للارتكاز المتشرّعي. وهو في تقديري غير محرَز بوصفه كاشفاً عن موقف الشرع؛ لأنّ استنكار هذا الفعل قد لا يكون لمنطلقٍ ديني، بل لكونه غريباً معيباً مستقبَحاً في العُرف وغير مأنوس، وبخاصّة أنّ هذه القضايا يحمل المسلمون ـ وكثير غيرهم ـ فيها أعرافاً وحساسيّات عالية ليس لها أصلٌ في الشرع، فكيف نُحرز أنّ تحسّسهم من مثل هذا راجع لتلقّيهم أمراً دينيّاً، فلعلّه راجع لرسوخ نوع من الثقافات المتوارثة. وهذا ما كنّا نتحدّث عنه مراراً من ضرورة وجود دراسات تاريخيّة وعلم ـ اجتماعيّة تحلّل مثل هذه الظواهر والقناعات العرفيّة من حيث منطلقاتها وبواعثها.
وسابعة، لمذاق الشريعة والشارع. غير أنّنا حقّقنا في مباحث الاجتهاد المقاصدي أنّ مذاق الشريعة لا معنى له سوى الرجوع للاستقراء المبنيّ على ملاحظة النصوص أو التشريعات في الموارد المختلفة، ولا نجد شيئاً هنا يمكنه أن يولّد مذاقاً من هذا النوع.
هذا، ومجال النقاش طويل لا يسعه هذا المختصر.
حيدر حبّ الله
الجمعة 28 ـ 1 ـ 2022م