يعدّ الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد (413هـ) من كبار علماء الإماميّة المتقدّمين، إلا أنّ هناك حاجة لوقفة مختصرة في قيمة المعطيات الرجاليّة التي يقدّمها لنا، خاصّة في باب التوثيق والتضعيف، وذلك أنّه قد وثّق عدداً من الرواة، سواء في رسالته العدديّة أم في سائر كتبه، مثل “الإرشاد” عند حديثه عن النصّ على الإمام الكاظم تارةً، وعلى الإمام الرضا أخرى.
وقد اعتمد الرجاليّون ـ ومنهم السيد الخوئي ـ في عشرات المواضع على هذه التوثيقات الثلاثة التي أصدرها المفيد، وبعض متفرّق غيرها بحقّ بعض أولاد الأئمّة وغيرهم.
والذي توصّلتُ إليه أنّ الشيخ المفيد وأمثاله من علماء مختلف المذاهب ممّن لا يُعرفون بخبرويّتهم في مجال نقد الرواة والرجال، بل لوحظ عليهم سلسلة أخطاء أو أمور غريبة في هذا الميدان.. هؤلاء العلماء لا تعتبر توثيقاتهم أو تضعيفاتهم حجّة أو أمارة كاملة، بل غايته كونها أمارة ناقصة وضعيفة على التوثيق والتضعيف، حتى لو كانوا من العلماء الكبار في مجال الكلام والفقه والأصول والفلسفة واللغة وغير ذلك. وهذه قاعدة مهمّة جدّاً في علم الرجال ينبغي تسليط الضوء عليها أكثر. بل لو فرضنا أنّ عالماً كانت تقويماته على خلاف الواقع؛ انطلاقاً من مبرّرات ظرفيّة كالبُعد الجدلي في أعماله، كما احتمله بعضٌ في الشيخ المفيد، فهذا لا يحلّ المشكلة، بل يضاعف من صعوبة الاعتماد على مواقفه التي تكون محاطة بملابسات من هذا النوع تجعلها غير واضحة في إفادة التوصيف الواقعي للرواة.
فالأصحّ هنا هو ما ذهب إليه الشيخ آصف محسني والشيخ الأحمدي الشاهرودي ـ وهو ما يظهر أيضاً من الشيخ محمد هادي آل راضي ـ من التوقّف في أمر توثيقات المفيد وأمثاله من علماء مختلف المذاهب. غاية الأمر أنّني أعتبرها مجرّد قرينة ناقصة على التوثيق. ولعلّ من أوائل من تنبّه لمشاكل توثيقات المفيد هو الشيخ محمد العاملي (1030هـ) حفيد الشهيد الثاني.
وقد كنتُ أثرت هذه الإشكاليّة (إشكاليّة عدم خبرويّة بعض المتقدّمين) شفاهاً على أستاذنا الشيخ باقر الإيرواني عام 1995 أو 1996م، وبدا منه الإقرار بها آنذاك، وطرحتُها في دورتي الرجاليّة الأولى في العام الدراسي (2009 ـ 2010م)، ثمّ الدورة الثانية (2015 ـ 2017م).
والسبب في التحفّظ على تقويمات أمثال المفيد هو مجموعة ملاحظات ذكرناها بالتفصيل في بحوثنا، وعلى سبيل المثال فإنّ المفيد لم يترك لنا كتباً أو أعمالاً تدلّ على خبرويّته في نقد الرواة وتقويمهم على عكس الحال في النجاشي والطوسي وأمثالهما. نعم عنده بعض الأمور حول الصحابة في سياق المساجلات الكلاميّة، وأغلب كتبه في الكلام والفقه والمتفرّقات، ولهذا لما ترجمه الطوسي والنجاشي لم يذكراه بأنّه عالم بالرجال أو عارف بأحوال الرجال والرواة، وإنما غلب على توصيفهم له الجانب الفقهي والكلامي، إلى جانب الرواية والفطنة وقوّة المناظرة.
ومع هذا القدر القليل من مساهماته الرجاليّة التي أدرجها في سياقٍ عرضي، ذكر لنا بعض الرواة ممّن لا يناسب موقفه فيهم واقع حالهم في تراث الرجاليّين، أو اضطربت كلماته فيهم، فقد عدّ المفيدُ محمدَ بن سنان من خاصّة الشيعة وثقاتهم في كتاب “الإرشاد”، لكنّه عند تعرّضه لإحدى الروايات في رسالته العددية، ذكر أنّه حديث شاذ نادر غير معتمد عليه، في طريقه محمد بن سنان، وهو مطعون فيه، لا يختلف العصابة في تهمته وضعفه، وما كان هذا سبيله لم يعتمد عليه في الدين. فكيف يمكن تفسير هذين النصّين من المفيد؟! هل يحتملان العدول؟! بل بعض الأسماء التي أوردها على أنّها من خواص أهل البيت و.. لا يُعرفون بالفقه والعلم، ولم يرد لهم توثيق من أحد، ولا كلام فيهم من أحد في مثل هذه الصفات التي وصفهم بها.
إنّ عدم ثبوت خبرويّة الشيخ المفيد في مجال الرجال وأحوالهم، كعدم ثبوت خبرويّة الشيخ الصدوق في هذا المجال على رأي بعضهم على الأقلّ، حيث يرونه مجرّد متّبعٍ لشيخه ابن الوليد في أمر الرواة، مع أنّ الصدوق كان محدّثاً بارزاً أيضاً، فهذا أشبه شيء مثلاً بالآراء الرجاليّة للسيد المرتضى حيث لم يثبت تخصّصه في هذا المجال.
وقد جمعتُ سلسلة من الشواهد والمعطيات التي تؤكّد عدم ثبوت خبرويّة المفيد في عالم النقد الرجالي، ومن ثمّ فعلى غير مسلك الحسيّة في التوثيقات الرجاليّة ـ على الأقلّ ـ والذي بنى عليه السيد الخوئي، كيف يمكن الاحتجاج بما قاله المفيد وبخاصّة بما تفرّد به في هذا المضمار؟!
من هنا، لا نجد وجهاً في تقويم مواقف العلماء طبقاً للحساب الزمني فقط، فكلّ من كان من القدماء، أي في القرون الهجريّة الخمسة الأولى، صارت أيّ كلمةٍ تصدر منه في الرجال معتمدة أو توجب الوثوق أو الاطمئنان أو التعبّد بكلامه، ليس لشيء إلا لكونه عاش في تلك الأزمنة، وهذا أمرٌ غير صحيح على إطلاقه، فليس عنصر القرب الزمني هو المهم لوحده في درجة الاعتماد والوثوق بكلام شخص، وإنّما عنصر المنهج والخبرويّة والتخصّص والدقّة وسعة الاطّلاع أيضاً في المجال الذي يُصدر فيه موقفاً.
وهذه الإشكاليّة تسري بعينها إلى العديد من الشخصيّات في المذاهب الأخرى، ممّن لا يُعرف باشتغاله على علم الرجال والفهارس والحديث، كعدد من العلماء مثل أبي حنيفة وبعض شيوخ علم الكلام عند المعتزلة والأشاعرة والماتريديّة والشيعة وغيرهم، فالكلام هو الكلام.
ولمزيد تفصيل حول هذا الموضوع وتقويمات الشيخ المفيد الرجاليّة، راجع كتابي (منطق النقد السندي 1: 249 ـ 254، 329 ـ 330، و 2: 249 ـ 255، الطبعة الأولى، 2017م).
حيدر حبّ الله
الخميس 6 ـ 10 ـ 2022م