يتعارف في العديد من بلاد المسلمين أن يقيم الناس مجالس تقبّل التعازي كمجالس الفاتحة أو العزاء أو يتلاقى أقرباء الميّت عند قبره، بعد مرور أسبوع على وفاة الميّت، وأحياناً بعد ثمانية أيّام أو عشرة أيّام، وكذلك بعد مرور أربعين يوماً، وكذلك ـ وبخاصّة في الشخصيّات المعروفة اجتماعيّاً و.. ـ في الذكرى السنويّة لوفاته، تعبيراً عن الحزن والعزاء و.. ويتصوّر بعض الناس أنّ هذا الأمر نابعٌ من توجيهٍ ديني واستحباب شرعي خاصّ.
لكنّ الذي توصّلتُ إليه أنّه لم يثبت استحباب خاصّ لإقامة مجالس التعزية أو تقبّل التعازي كمجالس الفاتحة أو العزاء عن روح الميّت بعد أسبوع أو أربعين يوماً أو سنة أو غير ذلك، وليس في النصوص ما يفيد ذلك ممّا يمكن الاعتماد عليه، بل الوارد في بعض الروايات عند الفريقين أنّ الحدّ الأعلى للحداد هو ثلاثة أيّام لا يُزاد عليها، وأنّ الحداد لا يتخطّى هذا إلا في المرأة التي توفّي زوجها، فمدّدت لها الشريعة فترة الحداد أربعة أشهر وعشراً، لا كما تفعل بعض نساء المسلمين اليوم من إبراز مظاهر الحداد ولبس السواد على أزواجهنّ أو آبائهنّ أو إخوانهنّ أو.. لمدّة سنة وأكثر، فهذا لم يثبت وجود توجيه ديني خاصّ فيه أيضاً.
وعليه، فهذه المناسبات العزائيّة (أسبوع، أربعين..) هي مناسبات عرفيّة، وربما أخذها الناس من أعراف مناطقهم أو من موروثات سابقة، فقد كانت عادة الأربعين موجودة عند الفراعنة كما قيل، وهذا يعني أنّه لو أُريد القيام بها فيلزم أن لا يؤتى بها بقصد الورود، كما يلزم أن لا يتمّ تلقّيها عند العرف أمراً دينيّاً.
ومن الضروري توضيح أنّنا نتكلّم عن المناسبات العزائيّة بما لكلمة “العزائيّة“ من معنى، أمّا لو أحبّ شخص أن يتصدّق عن روح قريبٍ له مثلاً أو يُطعم الطعام لذلك أو يقرأ له آياتٍ من الكتاب أو يصلّي له ركعتين أو غير ذلك، فهذا لا زمان محدّداً له في الشرع.
أمّا استدلال بعض العلماء هنا ـ وهو السيّد جعفر مرتضى العاملي في كتابه “مختصر مفيد” ـ بالروايات التي تتكلّم أنّ الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً، وأنّ آدم بكى على هابيل أربعين ليلة، أو أنّ الإمام الرضا أمر برشّ قبر يونس بن يعقوب أربعين شهراً، أو أنّ المؤمن يُفتن في قبره سبعة أيّام، أو أنّ الإمام الصادق ناح سنةً على بنتٍ له ماتت وناح سنةً على ابن له مات وغير ذلك.
هذا الاستدلال غير مقنع؛ فإن قُصد منه تبيين محض الجواز مقابل الحرمة، فهذا ثابت، وإن كانت أكثر هذه النصوص لا علاقة لها به، وإن قُصد منه تبيين توجيه ديني واستحباب شرعي كما يُستوحى أيضاً من عبارته رحمه الله، فمضافاً لضعف عمدة هذه الروايات سنداً، لا دلالة فيها على شيء هنا بعنوانه، فإذا كان المؤمن يُفتن في قبره سبعة أيّام فهل هذا يُستنبطُ منه شرعاً استحباب إقامة مجلس عزاء أو الفاتحة عن روحه وتقبّل التعازي بعد مرور أسبوع؟! وإذا كان الإمام الصادق قد ناح على ولده سنةً، فهل هذا يفيد استحباب إقامة الذكرى السنويّة لأمواتنا؟! وبإمكانك قياس ما قلناه على سائر الروايات، ولا حاجة للإطالة هنا.
واللافت أنّ السيد العاملي لم يُشر إلى روايات حصر الحداد والعزاء بثلاثة أيّام، ولعلّه يقصد هنا أنّ هذه المجالس ليست للتعزية أصلاً، بل لذكر الحسين أو لقراءة القرآن! مع أنّ هذا مخالف لما عليه الناس، وبخاصّة في الذكرى الأسبوعيّة والأربعينيّة، فإنّ مظاهر الحداد تكون أيضاً باديةً عليهم، والمقام مقام تقبّل التعازي بفقيدهم وغير ذلك.
حيدر حبّ الله
الاثنين 28 ـ 3 ـ 2022م