أخذ موضوع الترحّم حيّزاً من البحث في علوم التفسير والحديث، وكذلك في علم الفقه، وبخاصّة من زاوية طلب المغفرة لغير المسلم. وحديثي هنا حاليّاً ليس عن غير المسلم، وإن كان في إثبات حرمة الترحّم والاستغفار لمطلق غير المسلم نظرٌ وتأمّل؛ إذ القدر المتيقّن هو حرمة الاستغفار للمشرك المعاند المعادي، أمّا غير المشرك أو غير المعادي، فإثبات تحريم الترحّم عليه فيه نظرٌ شديد، نتحدّث عنه لاحقاً بحول الله.
إنّما الكلام هنا في ترحّم المسلمين بعضهم على بعض، أحياءً وأمواتاً، رغم الاختلافات المذهبيّة العقديّة أو الفقهيّة أو التاريخيّة؛ وذلك أنّ السائد بين علماء المسلمين، عمليّاً، عدم ترحّم بعضهم على بعض في حالات الاختلاف المذهبي العقدي العميق، مثل ما بين الشيعة والسنّة، فلا نجد حالةً غالبة من ظواهر الترحّم، بل تكاد تكون قليلة جدّاً، حتى أنّ الشخص إذا ترحّم على عالمٍ من غير مذهبه، استنكر بعضُ أهل مذهبه ذلك، وقد رأينا هذا بالعيان بين الشيعة وكذلك بين السنّة، بل هناك من يرى حرمة ترحّم الشيعي على غيره، كما وهناك من يرى حرمة ترحّم السنّي على الشيعي أو الإباضي أو حتى قد يصل الأمر الى التنازعات بين الأشاعرة والسلفيّة والماتريديّة في بعض الكلمات.
والذي توصّلتُ إليه، والعلم عند الله، أنّه يجوز للمسلم الترحّم على سائر المسلمين، بل هو من تجلّيات حقوق المسلم على المسلم، وذلك بشرطين:
1 ـ أن لا يكون المسلم الآخر منافقاً، يُظهر الإسلام ويُبطن الكفر، وبخاصّة كفر الشرك، ويشتدّ الأمر في المنافق المعادي.
2 ـ أن لا يكون المسلم الآخر مبغضاً وناصباً العداء لأهل البيت النبوي.
أمّا لو كان مسلماً مؤمناً غير منافق، ولا معادٍ، ولم يكن ناصبيّاً مبغضاً معادياً، فإنّه يجوز ـ بالعنوان الأوّلي ـ الترحّم عليه حيّاً وميّتاً، بل هو راجح، وقد وردت فيه بعض الروايات التي ترحّمت بالفعل على كلّ مسلم.
من هنا، فإنّني أدعو لنشر ثقافة التراحم بين المسلمين غير المنافقين أو النواصب، وأن يكون ذلك سرّاً وعلانية، فهو من محقّقات المقاصد الإسلاميّة العليا، ومن تطبيقات الأدلّة العامّة الشاملة للمقام.
وثمّة للفريق الآخر أدلّة تمنع الترحّم، من نوع إثبات كفر المخالف في المذهب، وهو رأي ضعيف تمّت مناقشته في محلّه، أو من نوع ما ورد ـ وبخاصّة منذ عصر الشهيد الثاني في القرن العاشر الهجري ـ من القول في صلاة الجنازة بنوعٍ من اللعن والدعاء على الميّت إن لم يكن موالياً لأهل البيت، وقد ناقشنا في محلّه أنّ هذا قرينتُه معه تشير إليها الروايات نفسها، وأنّ المراد به المنافق تارةً والمعادي المبغض تارةً أخرى، لا مطلق غير الإمامي. وأمّا ما ورد من لعن غير الإمامي ـ بمعنى الترخيص أو الحثّ على اللعن فيه بعنوان عام ـ فمضافاً لضعف السند في غالبه، إن لم نقل جميعه على قلّته، ثمّة ما يفيد في بعضه التعليل بالعداء لأهل البيت، لا بمطلق المخالفة، كما ورد في بعض روايات لعن المرجئة. وأمّا لعن أشخاصٍ بأعيانهم فإنّه يصعب التعميم من خلاله، خاصّة من حيث إنّ هؤلاء الأشخاص من رموز العداء والمناهضة أو من رموز المخالفة، فلا يمكن بلعنهم بأسمائهم ـ لو ثبت تاريخيّاً وتمّ ـ إثبات الترخيص أو الحثّ على لعن مطلق المسلم غير الموالي لأهل البيت، بل حتى لو قلنا بجواز لعن المسلم غير الموالي، فهذا لا يُثبت حرمة الترحّم عليه، فانتبه.
وقد تعرّضتُ لهذا الموضوع باختصار في كتاب (إضاءات 1: 405 ـ 407، الطبعة الأولى، 2013م)، كما تعرّضتُ للأدلّة القرآنية العامّة في علاقات المسلمين ببعضهم، والتي تمثل الإطار العام هنا، في بحثي تحت عنوان: «مبادئ العلاقات الإسلاميّة ـ الإسلاميّة، مطالعة في الفقه القرآني»، والمنشور في كتابي (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 7 ـ 57، الطبعة الأولى، 2011م).
حيدر حبّ الله
الأحد 6 ـ 2 ـ 2022م