بعد تطوّر العلوم الحديثة في مجالات متعدّدة، ظهرت سلسلةٌ جديدة من التحدّيات أمام الفقه، وأحدها إثبات النسب والجريمة ونفيهما، وما يتصل بذلك، عبر الوسائل العلميّة الحديثة، وفحوصات الدم، وبصمة الإصبع، والحمض النووي والـ DNA، وغيرها من أنواع الفحوص والتحاليل العلميّة والمخبريّة.
وقد اعتاد الفقه الإسلامي في بحوثه المتصلة بإثبات أو نفي الأولاد والنسب وأمثال ذلك على اعتماد معايير وشروط للإلحاق، من نوع: تحقّق الدخول أو القذف على باب الفرج، والولادة بعد مضيّ ستة أشهر، وعدم تأخّر الولادة عن تسعة أشهر، وقيل: عشرة، وقيل: سنة، وقيل أكثر من ذلك، فمع تحقّق هذا الشروط يتمّ النسب لزوج الأم، ولهم تفاصيل متعدّدة هنا، وبخاصّة ما كان من نوع كفاية الدخول دبراً في الإلحاق أو لا؟ وتحديد المدى الأعلى للحمل، وأخذ الدخول وما يلحق به شرطاً، من حيث إنّه لو أخذت الزوجة منيَّ زوجها الذي لم يقذفه على بدنها، وأدخَلَتْهُ ولو عبر أنبوب، فقد ذهب بعض الفقهاء لعدم كفاية ذلك في تحقّق الإلحاق النسبي أو استشكل على الأقلّ في ذلك (راجع ـ على سبيل المثال ـ منهاج الصالحين للسيد السيستاني)، وغير ذلك من التفاصيل.
والذي توصّلتُ إليه، هو أنّ هذه المعايير المأخوذة في الفقه الإسلامي ليست تعبّديات، بل هي الطرق الغالبة لتحصيل الوثوق أو قوّة الظنّ بانتساب الولد أو نفيه أو بإثبات الجريمة أو نفيها، فليس فيها نفي أيّ طريق علمي آخر يوجب اليقين العقلائي، وعليه فأيّ معطيات علميّة، جينية أو غيرها، يمكنها تحصيل اليقين الموضوعي العقلائي بالنسَب أو بإثبات الجرائم، أو بنفي النسب ونفي الجريمة وغير ذلك، فهو كافٍ في الاعتماد، شرط كون المعطى العلمي متيقّناً حقّاً وخاضعاً لمراجعة علميّة دقيقة ومفهومة ومحسومة.
وأمّا قاعدة الفراش فهي لا تُثبت البنوّة المعلومة العدم، بل هي قاعدة في حال عدم حصول علم بثبوت النسب أو نفيه، ومن أكبر الأخطاء الشائعة في البحث الفقهي في تقديري عند الكثير من علماء السنّة، بل والشيعة أيضاً، هو الخلل في فهم روح ومقصدِ قاعدة الفراش التي بحثناها في فقه ولد الزنا. وهكذا الحال لو ثبت النسب أو نُفي بالبيّنات، فإنّ الطريق العلمي لو كان يوجب اليقين الحاسم لأفضى ـ عادةً ـ لفقدان البيّنة وأمثالها لقوّة طريقيّتها وكشفها عن الواقع ولم تعد هذه البيّنات حجّة؛ لأنّ حجيّة هذه الطرق بملاك كاشفيّتها عن الواقع لا لخصوصيّةٍ تعبديّة، تماماً كحجيّة الظهور وحجيّة أخبار الآحاد وغير ذلك. فحصر النبيّ ـ في الرواية المعروفة ـ قضاءَه بالأيمان والبينات لا يفيد نفي أيّ وسيلة قضائيّة أخرى، بدليل حجيّة الإقرار غير المذكور في الرواية نفسها، وإنّما يتكلّم عن الوسائل المتاحة له، وهو هنا في مقام بيان إمكانيّة الخطأ في الحكم القضائي، لا في مقام بيان وحصر وسائل الإثبات القضائي حتى نتمسّك بدلالةٍ إطلاقيّة في الرواية، ولهذا وافق العديد من الفقهاء على حجيّة علم القاضي رغم وجود هذه الرواية. كما أنّ اللعان لا يعني نفي أيّ وسيلة أخرى لنفي النسب، إذ ليس فيه دلالة على ذلك، بل غايته أنّه وسيلة من وسائل النفي، بل لا موضوع للعان ـ في مجال النسب ـ على تقدير العلم بالانتفاء النسبي أو الإثبات.. نعم يمكن أن تكون للعان آثارٌ شرعيّة أخرى لا تترتّب على مجرّد نفي النسب بالوسائل العلميّة، وهذا أمرٌ آخر.
هذا، وقد أفتى بعض الفقهاء ـ مثل السيّد علي السيستاني والسيّد محمّد حسين فضل الله، وكذلك العديد من فقهاء ومجامع أهل السنّة الفقهيّة ـ بأنّ الحكم بلحوق الولد بالزوج وعدم جواز نفيه عن نفسه مع تحقّق الشروط المذكورة في الفقه، يختصّ بصورة الشكّ واحتمال كونه منه، وأمّا مع حصول العلم له بخلافه ـ من طريق فحص الدم أو غيره من الطرق العلميّة الحديثة ـ فعليه أن يعمل بمقتضى علمه.
حيدر حبّ الله
الاثنين 7 ـ 3 ـ 2022م