تعتبر ظاهرة استخدام الاستخارة من الظواهر شديدة الانتشار في الوسط الديني المعاصر. وقد ذهب إلى استحبابها بعض العلماء، فيما قد يبدو من بعضهم الآخر مثل السيد السيستاني والشيخ جواد التبريزي ـ حيث قالوا بأنّ الاستخارة يؤتى بها برجاء المطلوبيّة ـ أنّهم لم يثبت لديهم استحبابها. وقد ذهب بعض علماء أهل السنّة ـ مثل الشيخ محمود شلتوت (1963م) ـ إلى القول بحرمة الاستخارة المتعارفة عند الشيعة، وحصروها بمعنى الدعاء فقط، كما هو مدلولها اللغوي الأوّلي.
والذي توصّلتُ إليه في دراسة فقهية مطوّلة حول الاستخارة هو الآتي:
1 ـ بطلان القول بحرمة الاستخارة، وأدلّة القائلين بالحرمة كلّها يمكن أن تخضع لمناقشات عدّة.
2 ـ عدم ثبوت استخارة العدد (مثل الاستخارة بالسبحة والحصى..)، ولا ذات الرقاع والبنادق، ولا استخارة الطير، ولا استخارة المصحف ولا نحو ذلك. بل بعضها لم يظهر له وجود قبل القرن السابع الهجري مثل استخارة العدد، وبعضها لم يظهر له وجود قبل القرن الثاني عشر الهجري مثل استخارة الطير.
3 ـ إنّ الاستخارة بمعنى الطلب والتوجّه لله قبل العمل أن يوفقه له إن كان خيراً له ويبعده عنه لو كان شرّاً، أو أن يجعل اللهُ الخيرَ فيه له، هي استخارة ثابتة، لكنّها ليست إلا الدعاء قبل الفعل، ولا علاقة لها بتحديد أنّه ينبغي له الإقدام على الفعل أو لا، فضلاً عن أن تحدّد نتيجةَ الفعل. وهذا النوع من الاستخارة هو المعروف في التراث السنّي، وهو ـ فيما يبدو ـ محلّ إجماع المسلمين قاطبة.
4 ـ ثمّة روايات متعدّدة، بعضها صحيح السند، يطرح نوعاً من الاستخارة يُسمّى باستخارة القلب أو استخارة العزم، وهو أن يتوجّه العبد إلى الله تعالى قبل الفعل، ويدعوه للتوفيق في الرأي والعمل، ثم ينظر ما يستقرّ في قلبه ويعزم عليه في نفسه، فيُقدم عليه ويتّكل على الله فيه. وتوجد روايات أخر أيضاً بعضها قد يمكن تصحيحه سنداً، وهو استخارة الاستشارة، بأن يتوجّه العبد إلى الله بالدعاء بالتوفيق وسداد الرأي، ثم يستشير بعض الناس من حوله، فإنّ الله ييسّر له معرفة الحق بالاستشارة وتبادل الرأي. ورغم أنّ هذين النوعين الأخيرين من الاستخارة أقرب للصحّة السنديّة، غير أنّ الناس هجرتهما وتمسّكت بالاستخارات ضعيفة المصادر أو الأسانيد ـ وعلى الأقلّ تمسّكت بالاستخارات الأقلّ قوّةً منهما ـ كاستخارة السبحة والمصحف والرقاع ونحو ذلك.
ولمزيد توسّع، انظر بحث «فقه الاستخارة، دراسة استدلاليّة مقارنة»، والمنشور في كتابي المتواضع (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 7 ـ 259، الطبعة الأولى، 2013م).
حيدر حبّ الله
الاثنين 27 ـ 9 ـ 2021م