المعروف المشهور في الفقه الإسلامي اشتراط التساوي في الدِّين في القصاص، بلا فرق بين قصاص النفس وقصاص الأعضاء والجروح، فلو قتل مسلمٌ مسيحيّاً أو يهوديّاً مثلاً لا يمكن لأولياء المقتول أن يطالبوا بإجراء القصاص، بل غايته أنّ لهم المطالبة بالدية فقط، لكن لو كان المسلم معتاداً على قتل أهل الذمّة بحيث صدر منه ذلك أكثر من مرّة، فهنا ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ لأولياء المقتول المطالبة بإجراء القصاص فلهم قتله، فيما رأى فقهاءُ آخرون أنّ هذا ليس من سلطة أولياء المقتول قصاصاً (العقوبات الجنائيّة)، بل هو حكم من الأحكام الجزائيّة بحيث يقوم الحاكم المسلم بقتل هذا المسلم الجاني عقوبةً له على ذلك، حتى لو لم يطالب أولياء المقتول بالقصاص. وتوجد تفاصيل أخرى أيضاً في كلمات الفقهاء هنا.
وخالف المشهورَ هنا عددٌ قليل جدّاً من الفقهاء، ومن أبرزهم الشيخ الصدوق (381هـ) في كتاب “المقنع”، والشيخُ يوسف الصانعي (2020م)، حيث ذهبا لعدم اشتراط التساوي في الدِّين في العقوبات الجنائيّة.
أمّا الفقه السنّي، فقد انقسم انقساماً كبيراً هنا، ففيما ذهب الشافعيّة والحنابلة في القول المشهور إلى عدم قتل المسلم بالكافر مطلقاً، وكذلك بعض المالكيّة والظاهريّة. ذهب الأحناف في مشهورهم لثبوت قتل المسلم بالذمّي دون الحربي وغيره. والمنسوب لكثير من المالكيّة التفصيل أيضاً بين ما لو قتله غيلةً فيقتل به وغير ذلك فلا. وقد ذهب بعض علماء وباحثي أهل السنّة المعاصرين للانتصار لرأي الأحناف، مثل الشيخ أبوزهرة، والدكتور محمّد سليم العوا، وغيرهما.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّ التساوي في الدِّين ليس شرطاً في العقوبات الجنائيّة إلا بدليلٍ موردي خاصّ، فلو قتل مسلمٌ شخصاً غيرَ مسلم، وكان المقتولُ محترَمَ الدم، فلأولياء المقتول الاقتصاص منه إن شاؤوا، ولهم العفو وأخذ الدية، بلا فرقٍ في ذلك بين اعتياده على قتل غير المسلمين وعدمه. وأمّا دعوى وجود عقوبة جزائيّة بقتله على تقدير الاعتياد ـ بعيداً عن العقوبة الجنائيّة ـ فلم تثبت هنا بعنوانه، فيُترك الأمر لتعزيرات القاضي الشرعي لو استدعى ذلك.
والروايات هنا متعارضة وتقع على طوائف، فبعضها صريحٌ في القصاص (ثلاث روايات شيعيّة عن أهل البيت، وحوالي ثلاث روايات سنيّة عن النبيّ وعليّ، مضافاً لرواية سنيّة عن عمر بن الخطّاب)، وبعضها نافٍ للقصاص لكنّه مُثبت للقتل عند الاعتياد (أربع روايات شيعيّة ترجع لاثنتين كما سيأتي)، وبعضٌ ثالث نافٍ للقتل بلا تفصيل (خبر محمّد بن قيس شيعيّاً، وخبران عُمدة عند أهل السنّة)، وفي المجموعات كلّها ثمّة ما هو صحيح السند أيضاً.
وقد جمع فقهاء الإماميّة هنا بأخذ المجموعة الثانية بمثابة شاهدٍ على التفصيل، فما دلّ على القصاص قُصد منه حالة الاعتياد، وما دلّ على النفي قصد منه غير صورة الاعتياد. لكنّ هذا الجمع بتقديري تبرّعيٌّ، وليس في النصوص شاهد له إطلاقاً، بل لا تتحمّله بالمقاربة العرفيّة، لو سلّمنا أنّ القتل مع الاعتياد هو حكمٌ جنائي وليس حكماً جزائيّاً، وإلا صار هذا الجمع بين النصوص بلا معنى من أساسه.
وفي تقديري، فإنّ التعارض مستقرّ عرفاً بين النصوص، بل نصوص نفي القتل ـ الأعمّ مما تحدّث عن الاعتياد أو لا ـ ليست إلا حوالي خمس روايات شيعيّة وروايتين سنيّة، ثلاثةٌ منها ترجع لرواية واحدة، وهي خبر إسماعيل بن الفضل الهاشمي، فنحن أمام أخبار آحاد متعارضة، وعلى التقديرين ـ تقدير خبر الواحد وتقدير استقرار التعارض ـ نرجع للعمومات القرآنية والحديثيّة، المثبتة لسلطنة ولي الدم على الاقتصاص ونحو ذلك، بلا تمييز بين الجاني والمجنيّ عليه في الدين. بل لو قلنا بمعياريّة التقية هنا فإنّ القرائن قائمة على مشهوريّة هذا الحكم، حتى نظم الشاعرُ هجاءً في أبي يوسف من فقهاء الأحناف؛ لقوله بقتل المسلم بالكافر، بل خبر سماعة واضح في أنّ الناس لا تتحمّل مثل هذه الفتوى بثبوت القصاص هنا الأمر الذي يرجّح ـ على مستوى الرواية الشيعيّة ـ فرضيّة التقية أكثر. كما أنّ إحدى الروايات السنيّة هنا وردت في سياق مذهبي يريد تأكيد عدم وجود كتابٍ لعليّ ـ عليه السلام ـ يحتوي على شيءٍ ذي بال، وفي مثل هذه الروايات التي تقع في سياقات مذهبيّة، وتُعارضها روايات مضادّة على المقلب الشيعي حول كتاب عليّ.. فإنّ سرعة الوثوق بالصدور تصبح أبطأ.
ودعوى ترجيح روايات نفي القصاص إمّا بقاعدة نفي السبيل القرآنيّة أو بإعراض المشهور عنها، كلاهما مردودٌ بعدم ثبوت قاعدة نفي السبيل بعرضها العريض كما حقّقناه في محلّه من جهة أولى، وبكون ترجيح المشهور للمجموعة النافية ترجيحاً اجتهاديّاً من جهة ثانية، وربما مرجعه لفهمهم لقاعدة نفي السبيل، فلا يكون ترجيحهم حجّةً علينا، كما هو المقرّر في علم أصول الفقه.
هذا، والمسألة فيها تفاصيل بحثيّة ونقاشيّة لا يسعها هذا المختصر.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 8 ـ 3 ـ 2022م