المتعارف في كلمات الفقهاء عند ذكر شروط المفتي والمقلَّد هو أن يذكروا شرط البلوغ والعقل، فلا يكون صغيراً غير مكلّف، ولا مجنوناً غير عاقل. كما ذكر كثيرٌ منهم شرطَ الحريّة، فلو كان عبداً مملوكاً لا يصحّ تقليده والرجوع إليه في معرفة الأحكام الشرعيّة والعمل بها تقليداً.
غير أنّ مراجعاتٍ ـ على مستوى البحث العلمي ـ أُجريت على هذه الشروط الثلاثة عند المتأخّرين، بل قد حذف الكثير منهم شرطَ الحريّة حتى من كتبهم الفتوائيّة. واللافت أنّ بعض الفقهاء الذين صرّحوا في كتبهم البحثيّة بنقد شرط البلوغ والعقل نقداً حاسماً، ذكروهما في الرسالة العمليّة حتى دون احتياط وجوبي! فراجع ترى ما نقول، ولعلّهم في مقام الرسالة العمليّة كانوا قد عدلوا عمّا توصّلوا إليه في البحث الاستدلالي. نعم يظهر من بعضٍ الاحتياط الوجوبي في شرط البلوغ مثل الشيخ محمّد إسحاق الفياض في “التعاليق”، والشيخ الوحيد الخراساني، وهو محتملُ عبارةِ كلٍّ من السيد السيستاني والسيد فضل الله في شرطَي البلوغ والعقل. وبعض الفقهاء المتأخّرين لم يذكروا شرط البلوغ والعقل والحريّة أصلاً في كتبهم الفتوائيّة، ومنهم السيد محمّد سعيد الحكيم. وقد صرّح السيد كاظم الحائري بعدم شرط البلوغ بعنوانه، وذلك في تعليقته على الفتاوى الواضحة.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّ المفتي والمقلَّد إذا كان فقيهاً حقّاً وموثوقاً صالحاً، فإنّه لا فرق في حجيّة فتواه بين أن يكون صغيراً أو كبيراً بالغاً أو غير بالغ، وكذلك الحال في الحريّة، أمّا العقل، فإن كان جنونه إدواريّاً بمعنى أنّه تعرضه حالات، ثم يعود إلى وضعه الطبيعي ويعطي آراءه ويجري بحوثه وهو في حالٍ طبيعي، دون أن تؤثر نوبة فقدان العقل على علمه وخبرته وفقاهته حال الوعي، فلا شكّ في حجيّة فتواه، أمّا لو كان إطباقيّاً، فلا يمكن تقليده؛ لا لأنّه مجنون، ولا لأجل شرطٍ إضافيّ من شروط المقلَّد اسمُه العقل، بل لأنّه لا يصدق عليه عنوان “العالم الفقيه” حتى يصحّ فيه إجراء قانون رجوع الجاهل إلى العالم. نعم لو كان فقيهاً عاقلاً وقلّده الناس مدّة من حياته، لكن عرضه الجنون الإطباقي في آخر حياته مثلاً أو لحادثٍ تعرّض له، فهذا يجوز البقاء على تقليده أو حتى تقليده ابتداءً في فتاويه التي أصدرها حال عقله، فهو أشبه بمن مات، وقد قلنا سابقاً بأنّه يجوز تقليد الميّت بقاءً، بل ابتداءً أيضاً، مع صدق عنوان “الفقيه” في عصرنا عليه.
وأكرّر، هذا كلّه في حجية الفتوى، ولا نتكلّم عن الفقيه المرجع هنا بما هو صاحب ولاية قضائيّة أو ماليّة أو بما هو زعيم فعلي للطائفة أو للدين يمارسُ زعامَته بما لها من معنى، فإنّ مقام الزعامة والولايات غير مقام رجوع الجاهل إلى العالم، فيُرجى التنبّه والتدقيق في هذه القضيّة.
ولا أرى حاجة للإطالة هنا في عرض الأدلّة والمناقشات التي طُرحت حول هذه الشروط الثلاثة (البلوغ والعقل والحريّة)، فقد كفانا مؤونة ذلك النقّادُ الكبار من الفقهاء المتأخّرين، فلتُراجع كتبُهم، وسيرى المطّلعُ أنّ أدلّة المسألة ـ لو فصلنا مقام الولاية والزعامة عن مقام مجرّد أخذ العلم والفتوى، ولم نقل بحجيّة الإجماع والشهرة ـ لا تعطي شرطَ البلوغ والعقل، ولا شرط الحريّة.
حيدر حبّ الله
السبت 26 ـ 3 ـ 2022م