تداولت كلمات الفقهاء من المذاهب المختلفة ـ من جملة ما يُفرض على أهل الذمّة، ليكون من بنود مواطَنتهم داخل المجتمع الإسلامي ـ ما يُعرف ببندَي: عدم إظهار دياناتهم بشكل علني، وكونهم محتقرين. وذُكرت لهذين البندين أمثلة كثيرة، من نوع المنع عن بناء الكنائس ودور العبادة والصوامع وبيوت النار، وضرب النواقيس، وإصلاح الكنائس وأمثالها لو تهدّمت، وكذلك منعهم عن رفع جدران منازلهم وبيوتهم عن بيوت المسلمين، وضرورة تميّزهم في اللباس والمركب والكنى والألقاب ومظاهر حياتهم العامّة بحيث يبدون أقلّ من المسلمين ومختلفين عنهم، ولو واجههم المسلمون في الطريق فعليهم أن يضطرّوهم لأخذ طرف الطريق وأضيقها، وإذا دفعوا الجزية قام الآخذ للجزية بضربهم وصفعهم ليكونوا في حال من الصغار والذلّة، وأن يكون الآخذ حال دفعهم الجزية قاعداً وهم في حال قيام لمزيد إذلالهم، وأن ينحني الذمّي ليدفع المال للآخذ الجالس فيمسكه الآخذ في لحيته ويضربه، وأن لا يبادر المسلمون لابتدائهم بالسلام، وعدم عيادة مرضاهم، ولا المشاركة في تشييع جنائزهم، وغير ذلك من أمثلة تحقيرهم أو منعهم من إظهار معالم دياناتهم.
وقال بعض الفقهاء المسلمين بأنّ أهل الذمّة لو خالفوا هذه الأمور، كما لو رمّموا كنيسةً، خرجوا من الذمام، فإمّا يُقتلون وتُسبى نساؤهم وذراريهم، أو يُسلمون، أو يأمر الحاكم باسترقاقهم جميعاً.
لكن في العصر الحديث أُجريت بعضُ المراجعات الفقهيّة والتفسيريّة ـ وبخاصّة فيما يتصل بالبند الثاني، وكذلك بعض الأمثلة التي أشرنا إليها ـ فانتقد أمثال السيّد الخوئي والعلامة الطباطبائي بعض هذه الآراء الفقهيّة، وتابعهما جمع من الفقهاء والمفسّرين المعاصرين، كما انتقد فريق كبير من فقهاء أهل السنّة في العصر الحديث هذه الأمور واعتبروها من القضايا التاريخيّة التي لا تحمل سمة التأبيد. واعتبر هؤلاء جميعاً أنّ هذه الأمور تتبع توافق الدولة المسلمة مع الأقليّات الدينيّة وليس فيها حكم شرعي ثابت وقارّ.
والذي توصّلت إليه بعد دراسة النصوص والأدلّة والمعطيات التاريخيّة، أنّ هذين البندين ومختلف الأمثلة التي طروحها لهما، لم يقم عليها دليل حجّة ومعتبر، بل غالبه إمّا إسقاط معايير عامّة رأوا أنّها تنطبق هنا، أو طبيعة فهمهم لمقولة الصّغار الواردة في الآية الكريمة، أو الإجماع والشهرة، أو بعض الروايات القليلة التي توصّلتُ شخصيّاً لضعف أسانيدها جميعاً، ولو صحّ إسناد واحدة منها ـ وبعض الفقهاء يصحّح القليل منها ـ فهي مجرّد خبر آحادي ظنّي. من هنا ترجّح بنظري القاصر أنّ مواطنيّة غير المسلم في بلاد المسلمين لا تخضع في الشرع لمثل هذه المعايير.
ولا بأس بالإشارة هنا إلى أنّ بعض هذه الأمثلة التي ذُكرت هنا لم تأت لا في آية ولا في رواية، وإنّما كانت أشبه بالعرف التاريخي، وبخاصّة في بعض الحقبات الزمنيّة في التاريخ الإسلامي، والتي عرفت بأنّها من أكثر الحقبات تشدّداً إزاء أهل الذمّة، نتيجة أوضاع سياسيّة إقليمية وداخليّة معقّدة آنذاك، وهي فترة هارون الرشيد، وفترة المتوكّل العباسي، وفترة الحاكم بأمر الله الفاطمي. وقد انتقد العديد من العلماء والفقهاء الشيعة والسنّة قديماً وحديثاً ما كان يمارس من إذلال بشع جدّاً ضدّ أهل الذمّة في تلك الفترات، بما يفوق هذه الأمثلة التي ذكرناها، وكانت لبعض الفقهاء مواقف رائعة في نقد هذه المسلكيّات. ومن أحبّ فليُراجع كتب الفقه والسيرة والتاريخ.
لمزيد توسّع، راجع كتابي المتواضع (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني: 604 ـ 612، 626 ـ 631، الطبعة الأولى، 2020م).
حيدر حبّ الله
السبت 27 ـ 11 ـ 2021م