من الواضح في الشريعة أنّه لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره من دون إذنه، غير أنّه قد خرج عن هذه القاعدة بعض الحالات القليلة جدّاً، ومنها حالة تندرج تحت ما يعرف بحقوق المارّة، وهي أكل المارّة من الثمار وأمثالها، وليس مطلق الأخذ كما في الزهور والأوراق التي لا تؤكل، فلو مرّ شخص في بستان يجوز له ـ ولو من دون أن يسأل المالك ويستأذنه ـ أكل بعض الثمار ولو لم يكن مضطراً ولا جائعاً، لكن يلزمه أن لا يحمل معه شيئاً إلى خارج البستان. وقيّد بعض الفقهاء هذا الحكم بما إذا لم يظهر من المالك أنّه كارهٌ لذلك، فلو كتب لوحةً يمنع فيها ذلك أو فهم من بناء السور والأبواب ذلك، فلا يجوز، فيما صرّح بعضهم بأنّ الأحوط وجوباً عدم الأكل لو علم كراهة المالك، وكذلك اشترطوا أن لا يؤدّي ذلك إلى فساد الزرع بالمشي عليه أو إتلاف أغصان الأشجار أو غير ذلك. وبعض الفقهاء خصّص هذا الحكم بالنخل والسنبل والثمرة، أو بالنخل والشجر، دون مطلق المزروعات. هذا وقد ادُّعي ـ إماميّاً ـ على هذا الحكم الشهرة تارةً والإجماع تارةً أخرى. والمعروف في الفقه السنّي الإفتاء بعدم الجواز إلا عند الاضطرار، وجوّز بعضٌ قليل، كما في المنسوب إلى أحمد في روايةٍ تجويزه للجائع ولو لم يبلغ حدّ الضرورة.
لكنّ بعض المتأخّرين ظهرت عنده تعديلات مهمّة، فشرط بعضهم في الحليّة أن تكون هناك ضرورة عرفيّة، ومن هؤلاء: السيد الخوئي، والسيد محمّد الروحاني، والشيخ الفياض، والسيد الهاشمي، والشيخ التبريزي وغيرهم. وبعضهم احتاط بقيد الضرورة العرفية مثل الشيخ الوحيد الخراساني. وبعض الفقهاء عمّم الحكم بالحليّة لحالة ما إذا كان المارّ قاصداً الذهاب لهذا البستان للأكل، فيما رفضه العديد منهم ـ فتوى أو احتياطاً ـ ومن المتأخّرين الذي رفضوا: السيّد الخميني، والسيد تقي القمي، والسيّد عبد الأعلى السبزواري، والشيخ محمّد أمين زين الدين، والسيد المرعشي النجفي، والسيّد محمّد محمّد صادق الصدر، والسيد الهاشمي، والشيخ بهجت، والشيخ الصافي، وغيرهم. وهذا التعديل الأخير مهمّ جداً لأنّ معناه أنّ البستان الذي يقع على الطريق يكون هو المستهدَف بالحكم هنا، دون البساتين التي تقع بعيدةً عن الطريق، إذ الوصول إليها لابدّ له من قصدٍ عادةً، فلا يكون الإنسان مارّاً بها إلا نادراً.
لكن في مقابل الموافقة على أصل الحكم ولو مع تعديلاتٍ وقيود، خالف بعض فقهاء الإماميّة أيضاً في أصل الحكم ورفضوه، ولم يوافقوا على ثبوت حقّ للمارّة بهذا المعنى أو على الأقلّ توقّفوا في المسألة، وهو المنسوب إلى السيّد المرتضى، والمحقّق الحلّي، والعلامة الحلّي، وكاشف الغطاء، والكركي و.. وفي العصر الحديث رفض أصلَ الحكم بعضٌ مثل: الشيخ فاضل اللنكراني في كتابه جامع المسائل، والشيخ الصانعي في الطبعة الأخيرة من تعليقته على تحرير الوسيلة، وهو ما يُفهم من ظاهر إطلاق عبارة السيد الحيدري.
يشار إلى أنّ الوارد في التوراة جواز الأكل لشهوة لكن لا يجوز أن يحمل الإنسان معه، مع بعض القيود التي يحملها النصّ هناك، قال: «إذا دخلتَ كرمَ صاحبك فكلْ عنباً حسب شهوة نفسك شبعتك، ولكن في وعائك لا تجعل. إذا دخلت زرع صاحبك فاقطف سنابل بيدك، ولكن منجلاً لا ترفع على زرع صاحبك» (سفر التثنية، الإصحاح 23، الآيات: 24 ـ 25).
والذي توصّلتُ إليه، هو حرمة الأكل وغيره من البساتين والمزروعات على اختلافها ـ فضلاً عن محاصيلها المخزّنة أو المنقولة عبر الطرقات في وسائط النقل ـ ما لم يحصل الآكل على إذنٍ صريح أو ما يلحق بالإذن الصريح من المالك، إلا عند الضرورة المبيحة وأمثالها، والتي يكفي فيها المشقّة البالغة لو لم يأكل مقدارَ حاجته.
والروايات هنا أكثرها ضعيف الإسناد على التحقيق، بل معارَض برواياتٍ أخَر. وبعض الروايات المعارِضة تشرح روايات التحليل وتعيد تفسيرها بما ينسجم مع القواعد فيكون لها نظر إليها. بل بعض روايات الترخيص قاصرٌ دلالةً. وعليه، فيؤخذ بالمجموعة الحديثيّة الموافقة للقواعد وعمومات الكتاب والسنّة. كما أنّ الإجماع مشكوكٌ تحقّقه؛ لوجود مخالفين من كبار الفقهاء، ولو تحقّق فهو معلوم المدركيّة.
بل لو تنزّلنا، فالذي يمكن فهمه من النصوص كلّها، لو لاحظناها عند مختلف المسلمين ورصدنا السياقات اللفظية والتاريخيّة لها، هو أنّ النبيّ سعى لرفع حاجات المارّة والمسافرين والعابرين، ففرض ـ كما في بعض الروايات ـ عدم وضع الأسوار على البساتين تسهيلاً لأمور المارّة، وهذا ليس حكماً ثابتاً، بل هو حكمٌ ولائي نبويّ كما تعطيه بعض الإشارات والتعابير، ولهذا لم يقبل الفقهاء بحرمة بناء الحيطان على البساتين وغيرها، فالفكرة هي فكرة حاجات المارّة والعابرين وليست فكرة ترخيص مطلق. وبه يُعلم الحكم الوارد في بعض النصوص في مصادر أهل السنّة من الترخيص في الاستفادة من لبن (حليب) النوق أو غيرها للمارّة إذا لم يجدوا صاحبها قريباً منها ليأخذوا إذنه، فلهم أن يشربوا ما يرفع حاجتهم، وكأنّ النبيَّ أراد ـ لتسهيل أمر العابرين ـ خلق التزام اجتماعي عام بالموافقة على التصرّف الرافع للحاجة، كنوع من التضامن الاجتماعي ونفياً للضرر، فإذا زالت هذه المبرّرات زال الحكم، وإذا رجعت رجع، فالمسألة ـ على مستوى الفقه المجتمعي ـ تابعة لهذه المصلحة النوعيّة العامّة.
وبما قلناه يظهر الحال في سلسلة القيود والشروط التي ذكرها الفقهاء هنا، من نوع أن يقصد البستان أو لا يقصده بعينه، أو أن يختار الطريق التي تعبر به هذا البستان ليأكل منه، أو حالة إبراز المالك للكراهة، أو تخريب البستان والمزروعات، أو رمي الثمار بالحجارة، أو غير ذلك.
حيدر حبّ الله
الأحد 19 ـ 12 ـ 2021م