المشهور المعروف بين فقهاء المسلمين بمذاهبهم أنّ السفر بشروطٍ معيّنة يستدعي الإفطار للصائم وقصر الصلاة للمصلّي، على خلافٍ بين المذاهب الإسلاميّة في كون قصر الصلاة رخصة (مذهب جمهور أهل السنّة) أو عزيمة (مذهب الإماميّة..). ولكنّ رأياً يعتبر نادراً طرحه أمثال الشيخ محمّد الصادقي الطهراني (2011م)، رأى فيه أنّ إفطار الصائم حال السفر ثابتٌ في الشرع بنصّ القرآن الكريم (البقرة: 185)، لكنّه عنده مقيّد بحال العسر الشديد والضرر. أمّا الصلاة، فيرى الطهراني أنّ آية القصر (النساء: 101)، ليست فقط خاصّة بصلاة الخوف، ولا علاقة لها بمطلق صلاة المسافر، وهو ما يؤيّده فيه بعض الفقهاء كالسيّد الخوئي، بل هو ـ أعني الطهراني ـ يرى أكثر من ذلك، وهو أنّها بمفهومها (بالمصطلح الأصولي للمفهوم)، دالّة على نفي القصر في السفر عند عدم الخوف، وعلى هذا الأساس اعتبرَ أنّ الروايات الدالّة على القصر لعلّة السفر معارِضة للقرآن، وأنّ اتّباع العلماء لها كان نتيجة تراجع القرآن في اجتهاداتهم.
وقد كان الطهراني يرى سابقاً أنّ صلاة القصر ثابتة، لكنّها بمعيار المشقّة الشديدة، كما هي الحال في الصوم عنده، لكنّه لاحقاً عدل عن ذلك إلى رأيه بنفي القصر مطلقاً في غير حال الخوف، وجرت بينه وبين صديقه الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي (2008م) محاورة كتبيّة، حول الموضوع، وقد كنتُ ترجمتُ رسالة الطهراني في قصر الصلاة وبهامشها الرسائل المتبادلة أيضاً بينه وبين الشيخ تجليل التبريزي، ونشرتُها في مجلّة الاجتهاد والتجديد في بيروت، العدد الثاني، لعام 2006م.
وبتتبّعي التاريخي ظهر لي وجود قول نادر مطابق أو مقارب جدّاً لما ذهب إليه الطهراني في الموروث الفقهي القديم عند المسلمين، حتى أنّ بعض الصحابة وأمّهات المؤمنين ينقل عنهم شيء قريب من ذلك، وإن نقل عنهم أيضاً نقيضه. كما نجد بعض القرآنيّين المعاصرين، يرى الرأي نفسه، ولا نطيل.
والذي توصّلتُ إليه، هو صحّة ما ذهب إليه مشهور فقهاء المسلمين من ثبوت مبدأ القصر في الصلاة على المسافر بعيداً عن الخوف. أمّا هل معيار القصر هو المسافة، وما هي، أو هو الزمان (بياض يوم ـ يوم وليلة ـ يوم.. مطلقاً أو على معيار وسيلة النقل الأكثر رواجاً..)، أو هو التعب والمشقّة النوعيّان أو غير ذلك؟ فهذا موضوع آخر نتحدّث عنه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
وبتعليقٍ مستعجَل، حيث لا يسع المقام، فإنّ الآية (النساء: 101)، لا تفيد المفهوم النافي لمطلق القصر في السفر غير الخوفيّ؛ وذلك لمبرّرات عدّة يُربكُ اجتماعُها ما طرحه ـ رحمه الله ـ، أذكر منها باختصار:
أ ـ إنّ الشرط الأوّل فيها مسوقٌ مساق الغالب أو للتمهيد لبيان موضوع الشرط الحقيقيّ الواقع فيها، بملاحظة السياق التاريخي الجليّ، ويشهد له أنّ تمام الملاك هو الخوف لا السفر والخوف معاً، بمعنى أنّ الآية بصدد تبيين حالة الخوف التي كانت تتحقّق للمسلمين آنذاك في السفر، دون مثل المدينة المنوّرة. ويكفي كون هذا محتملاً جدّاً من الآية ليهدم ظهور المفهوم المدّعى.
ب ـ إنّه على تقدير ثبوت المفهوم يكفي في رفع اللَّغْوِيَّة وجود موارد للسفر كثيرة ليس فيها قصر (=المفهوم بنحو السالبة الجزئيّة)، وهذا متحقّق كثيراً في فقه السفر المبنيّ على السنّة الشريفة، خاصّة على القول بمعيار المشقّة النوعيّة أو معيار الزمان. وهذا الكلام يغدو أوضح إذ قلنا بأنّ معيار السفر الذي دلّت عليه النصوص إنّما جاء لتأسيس سفرٍ شرعي، لا لتبيين حدود ومصاديق السفر العرفي، فيكون هناك سفر عرفي في كثير من الحالات، لكنّه لا قصر فيه.
وعليه، فالآية لا تحتوي أكثر من إطلاق المفهوم القابل للتخصيص بثبوت القصر في السفر غير الخوفي في الجملة، خاصّة وأنّنا لا نعرف تاريخ نزول الآية مقارنةً بتاريخ تشريع قصر السفر، فيحتمل جدّاً أنّها نزلت قبل تشريع قصر السفر فلا يوجد مشكلة فيها حينئذٍ.
ج ـ إنّه قد تمّ تصوّر أنّ القصر الذي في الآية هو بعينه قصر الصلاة للمسافر، في حين الآية لا تشير لنوع القصر، وهل هو قصر كمّي (نقص عدد الركعات مثلاً) أو هو قصر كيفي (الصلاة إيماءً مثلاً، أو مشياً أو على الدابّة كما تحدّثت عنه الآية 239 من سورة البقرة)، وعليه فيمكن تصوّر تشريع قصر المسافر، ثمّ تشريع قصر إضافي للخوف، فتكون صلاة المسافر القصريّة إيماءً في حال الخوف، أو تصبح ركعةً واحدة مثلاً وهكذا، فصلاة الخوف وأمثالها من صلاة المسايفة والمطاردة المسمّاة بصلاة شدّة الخوف.. لا تجعل الرباعيّة فحسب ناقصة، بل يمكنها ـ قرآنيّاً ـ أن تجعل الثنائيّة ركعةً واحدة، وهكذا. وهذا بحثٌ نطرحه على مستوى المقاربة القرآنيّة الخالصة موازاةً لما حاول أن يفعله الطهراني، ومن ثمّ فقصر كلّ صلاة بحسبها تبعاً للخوف ودرجته ومتطلّباته، فآية القصر تفيد إطلاق القصر بأنواعه تبعاً لما توجبه حال الخوف، وهذا غير قصر المسافر المحدّد بطريقة معينة ودقيقة.
إلى غير ذلك من المناقشات الممكنة، والعلم عند الله.
حيدر حبّ الله
السبت 11 ـ 12 ـ 2021م