عرض القضيّة وبيان المواقف منها
تحوّلت زيارة الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ في يوم الأربعين إلى ظاهرة كبرى من ظواهر الشعائر الشيعيّة في العصر الحديث. وليست هذه الزيارة شيئاً ظهر في العصر الحديث أو في العصر الصفوي، بل نجد بعض المؤشرات التي تفيد وجودها قبل ذلك أيضاً بين الشيعة ولو بعضهم على الأقلّ. وقد اهتمّ العلماء والخطباء والتيارات الإسلاميّة السياسيّة في العصر الحديث بهذه الزيارة اهتماماً عظيماً حتى كادت تكون من الواجبات الكبرى، فيما انتقدها آخرون بشكلٍ عنيف وحمّلوها وأمثالها مسؤوليّة التخلّف والانهيار الذي يعاني منه المجتمع الشيعي المعاصر، وبخاصّة المجتمع العراقي.
وليست الزيارة الأربعينيّة بدعاً من التطوّر والتنامي الشعائري الذي شهدناه خلال العقود الأخيرة، ولهذا النموّ أسبابٌ كثيرة لو حلّلناه بطريقة سيسيولوجيّة من نوع: البحث عن الهويّة والخوف عليها، وتحويل الشعائر إلى مظاهر قوّة في سياق صراع إقليمي طائفي، ووجود إرادة سياسية قويّة لدى الزعماء الشيعة بذلك، وفي الوقت عينه وجود إرادة قويّة لدى خصوم الإسلام السياسي لتضعيف مواقفه عبر تعظيم الشعائر وإبراز الخصوصيّات المذهبيّة، وحالة التنافس الشديد بين التيارات الفكريّة الشيعية المؤيّدة والمعارضة والتي يسعى كلّ فريقٍ منها لاحتواء الساحة، وغير ذلك مما يُسعفه التحليل والمراجعة، وبخاصّة التطوّر المدني، وهجرة الأرياف وما يتركه ذلك من تحوّلات على المظاهر الدينيّة الاجتماعيّة العامّة.
خلاصة الرأي الفقهي الشخصي
والذي توصّلتُ إليه على مستوى البحث الفقهي، هو أنّه لم يثبت وجود زيارة مستقلّة بعنوانها اسمها الزيارة الأربعينيّة، فالشريعة لم تضع ضمن برنامجها زيارةً من هذا النوع بخصوصها. لكنّ هذا لا يعني عدم إمكان القيام بهذه الزيارة، بل يمكن القيام بها كما يمكن القيام بأيّ زيارة في أيّ يوم، لا بعنوانها الخاصّ، بل بعنوان كونها زيارة مستحبّة عامّة للإمام الحسين عليه السلام، فهي مستحبّة بالاستحباب العام لا بالاستحباب الخاصّ، ويلزم تفهيم الناس ذلك عند من لا يؤمن بالاستحباب الخاصّ لهذه الزيارة.
وقناعتي أنّ أيّ ظاهرة دينية اجتماعيّة لم تثبت نسبتها للدين بعنوانها، وإنّما ثبتت بعنوان عام، أو ثبت جوازها العام، فإنّه يجب تنبيه الناس وتصحيح قصودهم كي لا يقوموا بتلقّي هذه الظاهرة على أنّها بعنوانها الخاصّ جزءٌ من الدين، بل يفهموا نوع الحكم الثابت فيها من الجواز العام أو الاستحباب العام أو غير ذلك. وهذا الذي أقوله مرتبطٌ بقراءة خاصّة لمفاهيم البدعة وأمثالها، متقارباً بذلك مع رأي أمثال السيد موسى الشبيري الزنجاني الذي قد يُفهم من غير استفتاءٍ من استفتاءاته ذلك أو ما يقرب منه، ولا بأس بنقل بعض استفتاءاته مترجمةً منّي إلى اللغة العربيّة.
عيّنات من استفتاءات المرجع الديني المعاصر السيد موسى الشبيري الزنجاني
الاستفتاء الأوّل: في بعض المحافل، يتمّ ـ بعد إنهاء الصلاة ـ إلقاء السلام على أهل البيت عليهم السلام، وذلك على الشكل الآتي: يتوجّهون للقبلة واقفين، ثمّ يقولون: «السلامُ على رسول الله، وعلى أميرالمؤمنين، السلامُ على فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، السلامُ على الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنّة، والأئمّة المعصومين من ذريّة الحسين، سيما الإمام المدفون بأرض طوس عليّ بن موسى الرضا، والإمام الثاني عشر الحجّة بن الحسن عجّل الله تعالى فرجه، السلام على أنبياء الله والملائكة والمقرّبين وعلى الشهداء والصالحين ورحمة الله بركاته». هل هذا العمل صحيح؟
(جواب السيد الزنجاني): «إذ لم يتلقَّ العرفُ ذلك بعنوان أنّه كلامٌ مأثور عن أهل البيت عليهم السلام، فلا إشكال فيه».
الاستفتاء الثاني: في بعض المجالس والمحافل الدينيّة، وبعد الصلاة على محمّد وآل محمّد وطلب الفرج، يقول الجميع بصوت عالٍ معاً: «يا عليّ»، فما هو حكم القيام بذلك وانتشاره شرعاً؟
(جواب السيّد الزنجاني): «حيث إنّ هذه الأذكار لا يُقصد منها الإضافة على الصلاة على محمّد وآل محمّد، ولا تُحسب جزءاً من كيفيّة الصلاة، فهنا إذا لم تُتَلَقَّ بمرور الوقت على أنّها أمرٌ وارد في الشرع نفسه فإنّ التلفّظ بها لا مانع منه».
الاستفتاء الثالث: في بعض المساجد وبهدف الإعلان عن وقت إقامة صلاة عيد الفطر أو الأضحى، وكذلك بهدف إطلاع المؤمنين على زمان تشييع جنازة ميّتٍ وإقامة الصلاة عليه، يرفعون الأذان، وتبرير ذلك أنّهم يقولون بأنّنا نرفع الأذان لا بقصد ورود ذلك في الشرع، وإنّما بقصد الإعلام فقط، فهل لهذا الفعل وجهٌ شرعيّ؟
(جواب السيد الزنجاني): «إذا كان ذلك مسبِّباً للاشتباه ويتلقّى الناس هذا الأمر على أنّه شرعيّ ومن الشريعة، فإنّه غير جائز».
الاستفتاء الرابع: هل قول: «وعجّل فرجهم» بعد الصلاة على محمّد وآل محمّد في تشهّد الصلاة مبطلٌ لها؟
(جواب السيّد الزنجاني): «إذا لم يكن بقصد الورود، فلا بأس به عمداً وسهواً، ولكنّ الأفضل تجنّبه».
(راجع هذه الاستفتاءات في كتاب السيد الزنجاني الصادر عن مكتبه في قم، ونشر المركز الفقهي للإمام محمّد الباقر، تحت عنوان (استفتاءات 1: 339، 405، 582)..). كما وراجع موقف السيد الزنجاني حول قضيّة الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة، والمتقارب مع هذا الفضاء الذي تشهده استفتاءاته، وذلك في رسالته العملية في مباحث الأذان والإقامة.
تحليل خاطف ومختصر لفتاوى السيد الزنجاني
وبتحليل مختصر يسعه المقام، فإنّ السيد الزنجاني يعتبر أنّ تلقّي الناس لأمرٍ ما على أنّه أمر ديني فيما لا يكون هو ثابتاً في الدين، هو أمرٌ مشكل جدّاً، حتى لو كان ذلك الأمر في حدّ نفسه مشمولاً لعمومات ترخيصيّة أو حتى لعمومات استحبابيّة، فكيف يتلقّى العُرف العام القضيّة هو أمرٌ مهم، لا أنّه ماذا نقصد نحن، فالقصد عنصر مهمّ، لكنّ التلقّي العام للعرف قد لا يطابق القصد ولا يلتفت إليه.
وأترك مجال الحديث عن هذه القضية التي ألمحتُ إليها مراراً وتكراراً خلال السنوات الماضية إلى فرصة أوسع إن شاء الله.
هذا، ولمزيد اطّلاع على أدلّة الاستحباب الخاصّ لزيارة الأربعين ومناقشاتها، يمكن الرجوع إلى كتابي (إضاءات 1: 413 ـ 418، الطبعة الأولى، 2013م).
حيدر حبّ الله
الخميس 24 ـ 2 ـ 2022م