تنقسم المواقف من الدرس الفلسفي والاشتغال به في الحوزات والجامعات، ففيما ينتصر له عددٌ كبير من الفقهاء، ولا يرون فيه مشكلة في حدّ ذاته، وإن كانوا يتحفّظون على بعض الآراء والأفكار، غير أنّ فريقاً آخر يمثل تياراً كبيراً أيضاً يعارض الدرس الفلسفي العقلي ويتحفّظ عليه، وقد يبلغ به أحياناً حدّ التحريم الشرعي. وبعض الحوزات العلميّة التابعة لبعض المرجعيّات الدينيّة تمنع ـ وإلى اليوم ـ تدريس الفلسفة في أروقتها، فيما تُبدي حوزاتٌ أخرى كبيرة عدم اهتمامها ولا تشجيعها على الدرس الفلسفي عموماً.
ولا يُقصد بالدرس الفلسفي هنا البحوث الكلاميّة، ولا الموضوعات التي تتناولها الفلسفة لكن من منظار ديني قائم على مراجعة نصوص الكتاب والسنّة، بل يتركّز الموقف أكثر على القراءات الفلسفيّة العقلانيّة المخارجة للنصوص. ويُبدي العديد من العلماء تحفّظاً على النزعة التأويليّة التي يمارسها المشتغلون بالفلسفة، بحيث يُخضعون النصوص الدينيّة لتأويلات غريبة وغير مقبولة من وجهة نظرهم، الأمر الذي يضع الفهم الديني القائم على الكتاب والسنّة والعقل البديهي أمام مخاطر كما يرون.
وأبرز عناصر التحفّظ والقلق التي يبديها الفريق المعارض تقوم على الخوف من الضلال والانحراف عن جادّة الدين، وتشويه الرؤية الكونيّة بسبب هذه الأفكار الفلسفيّة هنا وهناك، سواء أتت اليوم من تراث المسلمين أم من خارج هذا التراث كالفلسفة الغربيّة الحديثة.
وتمتدّ المعارضة على بعض الصعد أحياناً لتطال مجال الدراسات الأديانيّة المحايدة أيضاً، وكذلك دراسات المذاهب على هذا النحو، حيث ينتقد هذا الفريقُ هذا النوعَ من الدروس والاختصاصات الحوزويّة والجامعيّة، ويرونها منفَذاً للأفكار المنحرفة والضالّة وفقاً لتعابيرهم.
والذي توصّلتُ إليه هو:
1 ـ مشروعيّة الدرس الفلسفي العام، وأعني به الدرس العقلي الذي يقرأ الوجود والحياة من منظار عقلي مخارج للنصوص، فليس هناك ما يحرّم هذا اللون من قراءة الوجود والحياة، بل على العكس تحتاج الدراسات الدينية أحياناً لذلك، كما في حالة الدفاع عن المفاهيم الدينيّة، الأمر الذي يفرض معرفة ودراسة الأفكار الفلسفيّة العالميّة.
2 ـ عندما ندافع عن الدرس الفلسفي فلا نقصد فلسفةً بعينها، بل نقصد ممارسة التعقّل في الوجود والعالم والحياة، وليس الدفاع عن الفلسفة الغربيّة بالضرورة أو الفلسفة الصدرائيّة كذلك، فهذه الفلسفات كلّها قابلة للنقاش والردّ والحوار الإيجابي. إنّما مرادنا نشر الثقافة العقلانيّة في أوساطنا؛ لمسيس حاجتنا إليها عادةً، وبخاصّة اليوم.
3 ـ إنّني أعارض بشدّة مناهج التأويل وتطويع النصوص بطريقة غريبة وعجيبة، مما يستخدمه كثيراً أنصار الفلسفة والعقليّات والنزعات الصوفيّة والعرفانية، وقد تحدّثتُ عن ذلك في مناسبات عدّة. وأرى أنّ النصوص لا ينبغي كمّ أفواهها وهدر دلالاتها. نعم لا مانع أن يكون الدرس الفلسفي محفّزاً لتقديم قراءة تفسيريّة جديدة، لا تهدر طاقات النصّ الدلاليّة، بل تلتمس القرائن والشواهد والنظام اللغوي والسياقي فيها، وبهذا تثري المعرفةُ العقلية فهومَنا للنصوص.
غير أنّ النزعات التأويليّة التطويعيّة لا تقتصر على الفلاسفة والعرفاء وأنصارهم، بل وجدناها أيضاً في تراث الكثير من المتكلّمين.
4 ـ إلى جانب الدعوة للاشتغال على علم كلامٍ عقلي، أجد من الضروري جداً الاشتغال على بناء علم كلامي نقلي أيضاً، بمعنى قراءة الوجود والعالم والإنسان والحياة من منظار النصوص الدينيّة. ومع الأسف فقد غابت الدراسات الكلاميّة النقلية إلا عن قليل من الباحثين، وكأنّه لا يوجد في القرآن ما يرتبط بالموضوعات الوجوديّة والفلسفيّة! وكأنّه لا يوجد في السنّة الآلاف من الروايات المتصلة بهذه الموضوعات، حتى صنّفت فيها كتب كبيرة مستقلّة، كبعض كتب الشيخ الصدوق على سبيل المثال.
5 ـ أعتقد أنّه يجب التفكير بجديّة في التعامل مع الموضوع الفلسفي والإقدام عليه من منطلق الثقة بالفكر الديني والقدرة على استيعاب التحوّلات الفكرية الكبرى في عالمنا اليوم، ليتمكّن الدين من البقاء في الصدارة على مستوى وعي الإنسان وعقله وفطرته ومشاعره، وأن لا يتحوّل الدين ورموزه إلى مجرّد أشخاص قلقين يعيشون دائماً هواجس الخوف والريبة ممّا حولهم، فيُعجزهم ذلك عن التقدّم والارتقاء بالأمّة نحو الأحسن.
إنّنا نأمل من الحوزات الدينية والمعاهد العلميّة عدمَ القلق من الدرس الفلسفي، بل واحتضانه وامتلاك القدرة على هضمه لتوظيفه في خدمة قضايا الإنسان والقيم والأخلاق، والاعتراف بالتنوّع في الفهم والتفسير. وإذا كانت لمشروعٍ ما سلبياتٌ هنا وهناك فهذا أمرٌ طبيعي لا يستدعي عيش الرفض المطلق له، ومن ثمّ خسارة إيجابياته بحجّة قاعدة أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة المحتملة، فإنّ هذه القاعدة ـ كقاعدة الاحتياط على المستوى المجتمعي كما يقول السيد الصدر ـ لا يمكن تطبيقها دوماً في الحياة الاجتماعيّة وعلى المستوى الحضاري العام.
كما نوجّه دعوتنا لأنصار الفلسفة إلى الترفّع عن تقديسها ورموزها أو التهاون بالنصوص الدينية والتعالي عليها، أو الانجرار غير الواعي لكلّ ما يقال في المنتديات الفلسفيّة من أفكار، وأن يملكوا الثقة بالنفس التي تؤهّلهم لتقديم الجديد في الفلسفة وعدم البقاء في حصار الطروحات القديمة.
هذا، وللتوسّع أكثر، راجع دراستي المتواضعة التي تحمل عنوان «الدرس الفلسفي وسؤال الشرعيّة، مطالعة في الموقف الشرعي من العلوم الفلسفيّة»، والمنشورة في كتابي (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 59 ـ 93، الطبعة الأولى، 2011م).
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 7 ـ 6 ـ 2022م