تتعدّد الأسواق التي يحصل من خلالها الإنسان على اللحم والعظم والجلد الحيواني وأمثال ذلك، فتارةً يكون السوقُ سوقَ المسلمين أو بلادهم وأخرى سوق غيرهم وبلادهم، وتارةً يأخذ هذه الأمور من مسلمٍ كانت الجلود واللحوم في يده وأخرى يأخذها من غيره وهكذا، فكيف يتعامل الإنسان مع هذه الأمور من حيث الحليّة والطهارة؟
الذي توصّلتُ إليه من فهم النصوص والقواعد الدينيّة والسّيَر العقلائية والمتشرّعية، هو أنّها تقوم على عنصرين: أ ـ رفع الظنّ بالتذكية، بشكل واضح، بحيث يكون احتمال التذكية هو الغالب جدّاً، وهو عنصر معرفي. ب ـ عدم التشدّد في السؤال، وإمكانية العمل بالحالة الغالبة بلا حاجة للتدقيق، وهو عنصر تسهيل.
ووفقاً لما تقدّم، فنحن أمام حالات:
الحالة الأولى: أن يكون ما في السوق، أيّ سوقٍ كان، في بلد مسلم أم غيره، أو في يد المسلم أو غيره، من المذكّى، بحيث نعلم أو نطمئنّ بذلك، فهنا يحكم بالحليّة والطهارة، فلو أخذ اللحم أو الجلد من بلد مسلم أو غير مسلم وكان يُعلم بالعلم العادي بأنّه مذكّى، فإنّ تركيبة القواعد الفقهيّة هنا تنتج الحليّة والطهارة معاً، حتى لو كان هناك احتمال ضئيل أنّ الذابح لم يراعِ القواعد الشرعيّة في الذبح. ومن هذا القبيل اتّباع قرائن التذكية الموجبة في العرف لقوّة احتمال التذكية جدّاً، كما لو رأينا البائع المسلم يأكل من هذا اللحم ونحن نعرف تديّنه الشديد، أو نعرف أنّ هذا التاجر ـ وكذا الدولة ـ متعهّد بأن لا يستورد غير الشرعيّ، الأمر الذي يؤدّي إلى قناعتنا بالتذكية وأنّه مطلعٌ على هذا، فيُعمل بمثل هذه القرائن الوثوقيّة.
الحالة الثانية: أن يكون ما في السوق أو في يد المسلم أو غيره غير مذكّى في العادة، وهنا نجري القانون نفسه، فنحكم بالنجاسة والحرمة، حتى لو اشتريناه من مسلم أو من بلد مسلم، فضلاً عن غيرهما، فإنّ إسقاط شرط الإسلام في الذابح لا يعني إسقاط شرط الذبح الشرعي كالتسمية وفَري الأوداج، نعم شرط الاستقبال يكون ملغيّاً في قبول ذبيحة غير المسلم. ومن موارد هذه الحالة أن تقوم القرائن المفيدة لغلبة الظنّ أو العلم بأنّ اللحم من إنتاج غير إسلامي، وهنا نتّبع قرائن عدم التذكية حتى لو كنّا في سوق المسلمين، كما لو اشترينا اللحم من سوبرماركت في بيروت أو دبي، ونعلم أنّ هذه السوبرماركت غالباً ما تبيع المستورد المحكوم بعدم التذكية، بحيث يندر أن تبيع غيره، فيحكم بالنجاسة والحرمة.
الحالة الثالثة: أن نفقد قرائن العلم أو الظنّ الغالب بأنّ اللحم مذكّى أو غير مذكّى، ويدور الأمر وتتساوى الاحتمالات، أو تتقارب، فهنا يُشكل الأمر حتى لو كان اللحم في سوق المسلمين. فلو كثر في بلدٍ مسلم استيراد المحكوم بعدم التذكية بشكل كبير، بحيث لم تعد حالة اللحوم المستوردة حالةً قليلة، بل صارت حالة كبيرة، وفي الوقت نفسه انتابنا شكّ حقيقي قويّ في أنّ المستوردين أو التجّار أو البائعين أو الدولة نفسها، هل يهتمّون لقضيّة التذكية أو لا؟ ففي هذه الحال لا يحكم بالتذكية؛ لأنّ قواعد السوق واليد وغيرها قواعد عقلائيّة لا تعبّدية، والغرض منها عدم الالتفات للاحتمالات القليلة والجري على الغالب المفيد للاطمئنان وشبهه، لكن لو كثر اللحم المستورد وضاع الاطمئنان ووقع الشك الحقيقي أشكل الحكم بالتذكية في غير ما نحرز أنّه مذكّى بعينه أو قامت القرائن العرفيّة على تذكيته كما قلنا.
للاطّلاع على التحليل المختصر، راجع كتابي (إضاءات 3: 280 ـ 285، الطبعة الأولى، 2014م).
حيدر حبّ الله
الأحد 7 ـ 11 ـ 2021م