تعرّض الفقهاء والمفسّرون لبحث مفهوم الشعائر الدينيّة لدى تفسير بعض الآيات المرتبطة بالحجّ، وقد أخذ هذا المفهوم بالتوسّع في العصر الحديث، حيث قيل بأنّ الشعائر ليست توقيفيّةً، فأيّ شيء يتواضع الناس على فعله إحياءً لأمرٍ ديني، بحيث يصبح هذا الشيء علامةً بارزة على هذا الأمر الديني ودالاً عليه، وله بُعد إعلامي متصل به، فإنّ هذا الشيء أو الفعل يصبح من شعائر الله أو شعائر الدين فيجب تعظيمه بناء على وجوب تعظيم الشعائر، أو يستحبّ تعظيمه بناء على قول من قال بعدم وجود دليل على وجوب تعظيم الشعائر، وإنّما الدليل على حرمة هتكها والترغيب باحترامها فقط.
ويعتبر المحقّق النراقي (1245هـ) من أبرز الذين تناولوا في الوسط الإمامي هذا الموضوع، وقد توصّل لفكرة توقيفيّة الشعائر، واعتبر أنّ الشعائر لابد أن تكون ثابتة النسبة إلى الله وأوليائه بدليل شرعي معتبر، ولا يفيد فيها مجرّد تواضع الناس عليها واشتهارها بينهم. وأيّده في ذلك بعض العلماء المتأخّرين كالشيخ الخالصي والسيد محمّد حسين فضل الله وغيرهما، ويلوح من بعض استفتاءات السيّد الخوئي ـ دون بعض ـ الموافقة على فكرة النراقي. فيما رفض الفريق الآخر فكرةَ التوقيفيّة، وكان من هؤلاء كلّ من السيد محسن الحكيم والسيد محمّد الشيرازي والشيخ محمّد السند وغيرهم.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّه يلزمنا التمييز بين مفهومين، يبدو لي أنّه وقع التباس بين الطرفين هنا فيهما:
أ ـ التوقيفيّة بمعنى عدم صيرورة (الشعيرة) المستحدَثة متعلّقاً لحكم شرعي مباشر متصل بها، وهو وجوب التعظيم أو حرمة الهتك، فلو استهدف شخص إضعاف ظاهرة التطبير لا يكون فعله حراماً، لأنّ التطبير ليس متعلَّقاً لحكم شرعي، لكنّه لو استهدف إضعاف الإحياء الحسينيّ بتمام أشكاله فَعَل حراماً.
ب ـ التوقيفيّة بمعنى حظر أيّ سلوك تعبيري عن قضيّة دينيّة كالقضيّة الحسينيّة إلا إذا كان هذا السلوك ثابتاً ومنصوصاً في الشرع بعينه، فالتطبير إذا لم يكن ثابتاً بعينه في الشريعة والنصوص فلا يمكن قبوله، ولا يكفي في قبوله أنّه إحياء للأمر وللقضيّة، فكما لا يجوز اختراع صلاة من عندنا كذلك الحال هنا.
وما ترجّح بنظري هو القبول بالتوقيفيّة بمعناها الأوّل دون الثاني، أي عدم وجود دليل على أنّ ما يصبح شعاراً مشهوراً أو ذا بُعد إعلامي بين الناس يكون من الشعائر الواجب تعظيمها أو المحرّم هتكها. نعم يمكن أن يكون فعلٌ معيّن من التطبيقات البشريّة لمفهوم ديني، مثل التطبير، فهو تطبيق بشري لمفهوم الحزن على الإمام الحسين، فالمفهوم ثابت في الشرع لكنّ التطبيق ليس ثابتاً، وهذا يعني أنّه يمكننا التعبير عن المفهوم عبر هذا التطبيق ونحصل بذلك على الثواب إذا لم يكن في التطبيق محذور شرعي مستقلّ، لكنّنا لو أردنا التعبير عن المفهوم بتطبيقٍ آخر مثل التبرّع بالدم وتجنّبنا ـ أو عارضنا ـ استخدام التطبيق الأوّل (التطبير)، فلا نكون قد ارتكبنا حراماً أو تركنا ما هو المطلوب؛ إذ المطلوب هو الإحياء مثلاً، أمّا كيف نحيي؟ فهذه تعابير بشريّة تختلف باختلاف الزمان والمكان والأعراف والعادات، ما لم يثبت فيها دليل معتبر بعنوانها، فالتطبيق ليس بنفسه وبعنوانه جزءاً من الشرع حتى لو صار شعاراً ومشهوراً. ومعارضتُه لا توجب معارضة الشرع إذا كان الرافض له يطرح بدائل لتطبيق المفهوم العامّ بما لا يؤدّي إلى تلاشي الإحياء نفسه؛ وهذا ينتج أنّ التوقيفيّة لا تعني إلغاء تمام مظاهر التطبيق إلا ما ثبت بالنصّ كما قد يُتصوَّر، بل تعني عدم تحويل ما لم يثبت بالنصّ إلى أمر ديني خالص بعنوانه، فإذا قصد القائلُ بالتوقيفيّة أنّه لا يجوز التعبير عن المفهوم العامّ المطلوب شرعاً إلا بشيء ثبت بالنصّ فهذا باطل، وأمّا إذا قصد أنّه لا يجوز فرض طريقة معيّنة لم ترد في النص أو نسبتها للدين بعنوانها؛ لمجرّد أنّها صارت مشتهرة ومَعْلَماً، فهذا صحيح.
حيدر حبّ الله
الجمعة 12 ـ 11 ـ 2021م