ذكر بعض الفقهاء المسلمين شروطاً في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر (المحتسِب)، بعد استبعاد ما يُعرف بالشروط العامّة للتكليف، مثل البلوغ والعقل والقدرة؛ لوضوحها، فمن لم يكن فيه ولو أحد هذه الشروط تسقط عنه هذه الفريضة. وأبرز هذه الشروط:
الشرط الأوّل: الإسلام، حيث ذكر بعض الفقهاء أنّ من شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إسلام الآمر والناهي، فالمسلم يجب عليه الأمر والنهي، أما غير المسلم فلا يشمله هذا الوجوب، وقد ذُكر ذلك في شروط المحتسِب في كلمات بعضهم، مثل ابن الاخوة القرشي.
الشرط الثاني: العدالة، إذ ثمّة نظرية تفصّل في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين العادل فيجب عليه الأمر والنهي، وغيره فلا يجب. ولم أجد من تبنّاها صريحاً باستثناء ظاهر كلمات بعض الكتّاب المعاصرين. نعم نسب ابن العربي (543هـ) هذا القول إلى من وصفهم بالمبتدعة، ونسب ذلك الفخر الرازي والغزالي إلى جماعة لم يحدّداهم، كما نسب بهاء الدين العاملي هذه النظرية إلى بعض العلماء، وفهم بعضهم من الفقه السنّي أنّه يفصّل بين الآمر المتطوّع والآمر المحتسب، ففي الأوّل لا تشرط العدالة، أمّا في الثاني فهي شرط لزاماً، وظاهر بعض الكلمات أخذ الشرط في المحتسب مطلقاً.
الشرط الثالث: العلم، حيث ذكر الكثير من الفقهاء أنه يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الآمر والناهي عالماً بالمعروف والمنكر، أي يعلم المعروف معروفاً والمنكر منكراً، ويدرك التمييز بين مواردهما على مستوى ما يفعله المأمور والمنهي. لكن ذكر السيد علي السيستاني بعد بيانه هذا الشرط: «ولكن قد يجب التعلّم مقدّمةً للأمر بالأول والنهي عن الثاني». وظاهره أنّ موارد وجوب التعلّم قد تكون استثنائيةً ومحدودة ولا تخلّ بأصل اشتراط هذا الشرط. وقد أوضح السيد محمّد حسين فضل الله هذا الأمر بطريقة جليّة حين قال: «نعم، يجب عليه تعلّم الأحكام التي يكون في معرض الابتلاء بها في سلوكه وعلاقاته وعباداته ومعاملاته، فيتوفّر عنده رصيدٌ من العلم يقدر من خلاله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيما عدا ذلك لا يجب عليه تعلّم الأزيد من ذلك كمقدّمة للأمر والنهي، إلا أن يتعيّن عليه التصدّي لما يُعلم وجوده إجمالاً من الفساد، ولا يوجد من هو أجدر منه بذلك، فيجب عليه التعلّم حينئذٍ لمواجهة الفساد والقيام بالواجب المنحصر فيه، وكذلك الحكم لو انحصرت الجدارة بمجموعة معيّنة قادرة على الأمر والنهي لولا جهلها بالمعروف والمنكر، فحينئذٍ يجب على هؤلاء جميعاً تعلّم المعروف والمنكر على نحو الوجوب الكفائي من أجل القيام بواجب الأمر والنهي، فإذا تصدّى أحدهم للتعلّم ممّن تكون له الكفاءة والكفاية سقط الوجوب عن الباقين».
وقد ذكروا أنّ هذا الرأي ـ أي اشتراط الوجوب بالعلم، ولو إجمالاً ـ هو المشهور، بل لا خلاف فيه. وذهب بعضهم إلى ما هو أزيد من ذلك على مستوى الحسبة، فقد قال الشيزري الشافعي بوجوب أن يكون المحتسب فقيهاً عارفاً بأحكام الشريعة، وطرح ابن الاخوة القرشي وجهتي نظر في أنّ الشرط هل هو الاجتهاد الشرعي أو العرفي، ولعلّ وجوبه هذا وجوبٌ مقدّمي لا شرطاً في الوجوب. بل قد ذهب الفخر الرازي إلى اختصاص هذا التكليف بالعلماء، ويظهر من بعض علماء الإسماعيليّة مثل علي بن الوليد الإسماعيلي، تبنّي ذلك. لكن خالف في أصل هذا الشرط بعض العلماء، وجعلوه كأمر المحدث بالصلاة من حيث وجوب المقدّمة عليه، وهي الطهارة.
الشرط الرابع: السلطة، وهو ما ذهب إليه القرطبي، وحاصل فكرته أنّ الأمر والنهي فريضة السلطان الذي بيده الأمور، ولا يليقان بكلّ أحد. واختار هذا القول ـ كما نسب القرطبي ـ الضحاكُ وسهل بن عبد الله، مضيفاً ـ الأخير ـ العلماء، مصرّحاً بأنّ الناس ليس لها أن تأمر السلطان ولا العلماء. وقد خالف بعض العلماء هذا القول صراحةً فضلاً عن ظاهر الإطلاق.
الشرط الخامس والسادس: الذكورة والحريّة.
والذي توصّلتُ إليه هو عدم اشتراط الإسلام (على تفصيل جزئي) ولا العدالة ولا الذكورة ولا الحريّة ولا السلطة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا اختصاص الوجوب بالعلماء، بل ما ذهب إليه السيدان: السيستاني وفضل الله هو الأقرب، من أنّ غير العالم بما يأمر به وينهى عنه قد يجب عليه من باب المقدّمة التعلّم لكي يؤدّي فريضة الأمر والنهي على وجهها الصحيح ومضمونها السليم على تقدير توقّف الفريضة على ذلك.
وكما أنّ السلطان والعالم يأمران الناس، كذلك من واجب الناس شرعاً أمر السلطان والعالم ونهيهما عن المنكر ضمن شروط هذه الفريضة، فتثبيط الناس عن أمر السلاطين والعلماء غير جائزٍ بالعنوان الأوّلي.
وقد بحثتُ هذه الأمور بالتفصيل في كتابي (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 208 ـ 214، 375 ـ 398، الطبعة الأولى، 2014م)، فراجع.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 14 ـ 9 ـ 2022م