المتداول في كلمات الفقهاء أنّ النشوز يقع من الزوج كما يقع من الزوجة، وأنّ نشوز الزوج قد يكون بمنع الزوجة عن بعض حقوقها كترك الإنفاق عليها أو هجرها بالمرّة أو إيذائها وغير ذلك. وتحدّث الفقهاء أنّ الزوج إذا نشز كذلك كان للزوجة المطالبة بحقوقها مباشرةً، فتطلب منه ذلك، فإن لم يستجب رفعت أمرها للحاكم الشرعي، وقيل: بل لها رفع أمرها للحاكم مباشرةً ولو قبل مطالبتها له. وهنا طرح بعض الفقهاء مسألةً، وهو أنّ هذه الزوجة يمكنها التنازل عن بعض حقوقها الشرعيّة بهدف حثّ الزوج أو استمالة قلبه لكي يكون حاله معها أحسن، فتتنازل عن بعض مهرها أو عن بعضٍ من نفقتها، وأنّها إذا فعلت ذلك حلّ له قبول ذلك المال ويكون من ماله في هذه الحال.
على خطٍّ آخر مقابل، يظهر من عدد قليلٍ من الفقهاء ـ منهم السيّد محمود الهاشمي ـ أنّ الزوجة يمكنها الامتناع عن القيام بحقوق الزوج عندما يقصّر هو في حقوقها الشرعيّة، وذلك في حالة ما لو طالبته ورفعت أمرها للحاكم، ولعلّه ـ رحمه الله ـ يقيّد ذلك بحال ما لو طالبت بالطلاق لكن لم يتسنّ لها الحصول عليه وظلّ مقصّراً في حقوقها.
والذي توصّلتُ إليه ـ والله العالم ـ أنّ الزوجة إذا تنازلت عن بعض حقوقها حال نشوز الزوج ـ بمعنى تركه لبعض الواجبات أو إيذائه لها ـ بهدف إصلاحه للعودة إلى حياته الزوجيّة الطبيعيّة الصالحة، فإنّ لها ذلك، لكنّ حليّة المال المأخوذ له، فيه إشكالٌ لو كان نشوزه بحيث يصدق ـ عرفاً ـ أنّه اضطرّها إلى شيء من ذلك، لاستقرار حياتها الزوجيّة، بحيث يرى العرف أنّ أخذه للمال لرفع ظلمه عنها نوعٌ من أكل المال بالباطل، وكذلك لو كان قاصداً من وراء نشوزه أن تُقدم هي على ذلك، فهذا حرامٌ قطعاً. نعم لو رضيت هي لاحقاً فهذا حقّها، ويكون تنازلها قد وقع مؤثراً في الحقيقة من حين رضاها الحقيقي اللاحق المنفصل عن حالة النشوز ذاتها.
في المقابل يظهر لي أنّ ما ذهب إليه أستاذنا السيد الهاشمي وجيهٌ جدّاً؛ فإنّ روح الواجبات الزوجيّة بالنظر العقلائي وبمناسبات الحكم والموضوع وبقواعد فقه العقود والمواضعات، هي روح توافق وتقابل، بل آية القيمومة لها نوع دلالة على ذلك في الجملة، كما يؤيّده حكمهم بسقوط نفقة الزوجة عند نشوزها وتمرّدها عن واجبات الزوجيّة، فإذا أخلّ أحد الطرفين بما يلزمه العمل به، كان للطرف الآخر مقابلته حتى لو لم يكن بيده خيار الفسخ، بل المعتبر من أدلّة وظائف كلّ منهما داخل الحياة الزوجيّة لا إطلاقَ فيه لحالة التخلّف المقابل، وبخاصّة لو أدخلنا بالحسبان ما تقدّم بوصفه قرينةً متصلة ارتكازيّةً محتملة. ودعوى أنّه لو كان الأمر من باب المعاوضة للزم ثبوت حقّ لها بترك حقوقه في حال عجزه عن الإنفاق مثلاً ـ كما ذكره إشكالاً الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض ـ قابلٌ للتعليق؛ فإنّ الحق ثابتٌ لها بالفعل ما لم يجرِ استثناؤه بدليل خاصّ. وقد أفتى غير واحدٍ من الفقهاء بذلك في باب النشوز عن النفقة، فراجع، وعليه فنلتزم بمبدأ المقابلة إلا ما خرج بدليلٍ لفظيّ أو لبّي.
وقد رأيت بعد بحثي للموضوع أنّ بعض الفقهاء ـ ومنهم السيد روح الله الخميني، والسيد محمّد رضا الگلپايگاني، والشيخ محمّد أمين زين الدين، والسيّد محمّد حسين فضل الله، والسيّد علي السيستاني، والشيخ لطف الله الصافي ـ يفتي صريحاً فيقول: « لو ترك الزوج بعض حقوقها الغير الواجبة أو همّ بطلاقها؛ لكراهته لها؛ لكبر سنّها أو غيره أو همّ بالتزويج عليها فبذلت له مالاً أو بعض حقوقها الواجبة من قَسَم أو نفقة استمالةً له، صحّ وحلّ له ذلك، وأمّا لو ترك بعض حقوقها الواجبة أو آذاها بالضرب أو الشتم وغير ذلك، فبذلك مالاً أو تركت بعض حقوقها ليقوم بما ترك من حقّها أو ليمسك عن أذيّتها أو ليخلعها، فتخلص من يده، حرُم عليه ما بذلت وإن لم يكن من قصده إلجاؤها بالبذل على الأقوى» (تحرير الوسيلة 2: 306؛ وانظر: الگلپايگاني، هداية العباد 2: 368؛ وكلمة التقوى 7: 136 ـ 137؛ وفقه الشريعة 3: 524؛ ومنهاج الصالحين 3: 109 ـ 110؛ والصافي، هداية العباد 2: 464).
وهذا التمييز صحيحٌ تماماً، والأدلّة الواردة هنا لو تأمّلناها جيّداً فهي تتحدّث عن النشوز، لكنّ المورد الذي تتكلّم عنه موردٌ خاصّ، وهي حالة رغبة الزوج بالطلاق ـ لا مطلق النشوز بمعناه الفقهي ـ في حين أنّ المرأة لا تريد الطلاق إطلاقاً، فهنا يمكنها أن تتنازل عن بعض حقوقها لاستمالة الرجل وصرف نظره عن الطلاق، ولا تتحدّث هذه الروايات عن حالة عدم قصد الزوج للطلاق، مع كونه ناشزاً مصرّاً على نشوزه، عدا إطلاق روايةٍ واحدة، وهي رواية زرارة الضعيفة السند على التحقيق (انظر: تفصيل وسائل الشيعة 21: 344). بل النصوص الحديثية عند أهل السنّة تقع أيضاً في السياق نفسه، لا في سياق النشوز بمعنى التخلّف عن الواجبات.
وهذا يعني أنّ ما تخلّت عنه المرأة وقع في مقابل إرادة الزوج الطلاق أو الزواج من ثانية أو نحو ذلك؛ لصرفه عنه، لا في مقابل مطلق نشوزه. وفرقٌ كبير بين الحالتين، من حيث إنّ خيار الطلاق أو الزواج الثاني هو حقٌّ له، بينما نشوزه الذي نتحدّث عنه هنا ليس كذلك. وتعبير الروايات بالنشوز هنا، رغم أنّ الطلاق ليس نشوزاً بذاته في المصطلح الفقهي الخاصّ، إنّما هو من الباب اللغوي، أي إنّه استعلى عنها وتخلّى ولم يعُد يريد هذه الزوجة، فهو يريد طلاقها أو يشرف على زيجةً ثانية تجعله يضع اهتمامه الأكبر بغيرها، ولهذا ورد في بعض هذه الروايات: «تكون عنده المرأة لا تعجبه، فيريد طلاقها..»، كما في خبر أبي بصير، وقريبٌ منه خبر الشحّام، أو « المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: إنّي أريد أن أطلّقك»، كما في رواية الحلبي.
وبهذا نفهم أيضاً دلالة الآية القرآنية الكريمة هنا، والتي اعتبرها بعض الفقهاء أساساً في مسألتنا هذه، قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 128)، فإنّ الآية تتكلّم عن ترفّع الزوج عن الزوجة وإعراضه عنها ورغبته في التخلّي أو تقديم غيرها عليها بما يحقّق مفهوم النشوز أو الإعراض لغةً، ، فتجري الزوجة معه مصالحةً لإبقاء الحياة الزوجيّة، فتتنازل عن بعض الأمور لاستمالته، وبعض روايات أسباب النزول تساعد على ذلك أيضاً. بل حتى لو قلنا بعموميّة دلالة الآية للنشوز بمعنى ترك حقوقها أو إيذائها فعلاً، فإنّ الاستدلال بها موقوف على كون المراد من الصلح فيها هي هذه الطريقة، أمّا لو قلنا بأنّ الآية تقصد من الصلح هنا هو رفع المرأة الأمر للحاكم فيتصالحان على وفائه بحقوقها مقابل وفائها بحقوقه مثلاً أو ما شابه ذلك، فإنّ الآية لن يكون لها علاقة كبيرة بموضوع بحثنا هنا، بل حتى لو تمّ الإصرار على فهم العموميّة فإنّ العرف يفهم أنّ عدم تضمّن الصلح لأمرٍ غير شرعي في لوح الواقع مقدّمٌ على عموميّة دليل الصلح، ولهذا قالوا بأنّه لو علم أحد الطرفين المتنازعَين أنّه ليس له حقّ في العين المتنازَع عليها، لكنّهما تصالحا على مناصفتها بينهما مثلاً، سقطت الدعوى القضائيّة بالصلح، لكنّ الواقع لا يتغيّر بذلك؛ لأنّه يصدق أكل المال بالباطل في هذه الحال عرفاً وعقلائيّاً، فما لم يرضَ الطرف الآخر ـ بنحو الرضا النهائي بصرف النظر عن الصلح ـ لا يثبت للطرف الآخر أيّ حقٍّ في التصرّف في العين ولا يملك فيها شيئاً، والأمر هنا على المنوال عينه، فالزوجة لو تنازلت عن مالٍ لها أو عن بعض حقوقها لغاية تحصيل سائر حقوقها أو رفع أذيّة الزوج عنها، فما لم ترضَ بتنازلها هذا بصرف النظر عن التنازع هنا، لا يكون للرجل حقّ في الحصول على ما تنازلت عليه ولو كان مالاً.
حيدر حبّ الله
الجمعة 18 ـ 3 ـ 2022م