hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

كرامات الأولياء والأئمّة ـ عرض وتحليل مختصر لوجهات النظر المختلفة

تاريخ الاعداد: 8/17/2023 تاريخ النشر: 8/17/2023
16440
التحميل

حيدر حبّ الله([1])

تحرير وتقرير بقلم: حسن الخرس

تمهيد في مقدّمات خمس

حظيت ظاهرة كرامات الأولياء والأئمّة باهتمام علمي كبير في التراث الإسلامي، حيث تعرّض لها علماء الإسلام وسائر الديانات عبر التاريخ، وعادةً ما تمّ فصل الحديث عنها ـ تدويناً ومفهوماً ـ عن بحث المعجزات التي جرى تخصيصها بالأنبياء.

ونحاول هنا أن نقدّم جولة مختصرة على أبعاد الموضوع وإشكاليّاته، كما نشير إلى أنّه قابلٌ لدراسته من جهات وزوايا مختلفة؛ دينيّاً وتاريخيَاً ونفسيّاً واجتماعيّاً، لهذا أقترح على الباحثين وطلاب الحوزات والجامعات تسليط البحث على هذه الزوايا المتعدّدة لما لها من تأثيرات واسعة على البنية المعرفية العلميّة، وعلى تكوين الثقافة الشعبيّة العامّة.

ولا بأس ـ بدايةً ـ بذكر مجموعة من المقدّمات؛ لتوضيح بعض الأمور الضروريّة التي تقع في صلب الموضوع، وذلك على الشكل الآتي:

1 ـ أنواع النزاع في موضوع الكرامات

البحث في الكرامات أو كرامات الأئمّة والأولياء أو كرامات الصالحين، يقع من عدّة نواحٍ:

أ ـ النزاع المعتزلي ـ الإسلامي حول إمكان الكرامات وامتناعها؛ فيدرس موقف العقل الخالص من صدور خوارق العادات على يدي غير الأنبياء بصرف النظر عن النصوص الدينيّة. فهل موقفه إيجابي أو يحكم بأنّها ليست سوى أساطير يستحيل وقوعها على يد غير الأنبياء؟

ب ـ النزاع الذي يشتهر أكثر بين السلفيّة والمتصوّفة حول الكرامات من زاوية تحديد صفات من تجري على يديه الكرامة ومدى العلاقة الدلاليّة بين الكرامة وحُسن حال صاحبها، بعد الفراغ عن إمكان الكرامات للصالحين والأولياء، بل ووقوعها.

ج ـ النزاع بين النزعتَين: العِلمويّة والدينيّة حول الكرامات، من زاوية اللامعقوليّة والخرافة ومناقضة قواعد العلم الحديث حسبما يراه التيّار العِلموي، وهذا النزاع يأخذ بعض جذوره من المقولات التي طرحت في نقد المعجزة ومساهمات ديفيد هيوم وغيره هنا، ولن نتعرّض له هنا إلا باختصار شديد.

د ـ النزاع حول معايير إثبات الكرامات وشروطها، فإذا نسبت كرامة إلى رجلٍ صالح قبل مئتي سنة مثلاً؛ فهل يشترط التواتر لثبوتها أو يجوز الإثبات بخبر الواحد؟ وهل تصمد أمام النقد العلمي؟ وكم يبقى منها؟ والنزاع في هذه الناحية وإن لم يكن في عرض النزاعات السابقة بالضرورة، غير أنّه يحظى بأهميّة عمليّة وبخاصّة في عصرنا الحاضر.

2 ـ النزاع بين المتكلّمين في تصحيح إطلاق لفظ المعجِز على الكرامة

اختلف المتكلّمون في تصحيح إطلاق المعجز على الكرامات على فريقين:

فريقٌ دافع عن ذلك؛ لتوفّر عناصر المعجز فيه مع عدم ورود ما يمنع عن إطلاق هذا الاسم عليه، قال الحمصي الرازي: «فأمّا تسميته‏ بأنّه‏ معجز فصحيحة أيضاً؛ إذ معنى المعجز ثابت فيه ولم يرد سمع بالمنع منه، فيجب أن تكون صحيحة، فمن لم يُرد تسميته‏ بأنّه‏ معجز فذلك إليه فقل لا تسمّه بذلك، إذ لا طائل في المشاحّة في العبارات مع سلامه المعاني»([2]). وعلى أساسه تجلّى هذا الإطلاق على بعض عناوين الكتب ككتاب مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني (1107هـ).

وفريقٌ منع، قال الشرفي الزيدي (1055هـ): «وكرامات‏ الصالحين‏ من نحو إنزال الغيث وإشفاء المريض وتعجيل عقوبة بعض الظالمين الحاصلة بسبب دعائهم أو تغيّظهم وحرج صدورهم‏ ليست بمعجزات لهم وإن كانت خارقة للعادة؛ لعدم حصول شرط المعجز فيها، وهو التعريف أو وقوعه بعد الدعوى مطابقاً كما مرّ، وإنّما هي إجابة من الله تعالى لدعائهم وتكريم وتشريف لهم من الله سبحانه لما هم عليه من خالص الإيمان واتّباع ما يرضي الرحمن؛ لأن الله سبحانه قد تكفّل لهم بالإجابة»([3]).

فالمعجز في نظر هذا الفريق يمتاز عن الكرامة باقترانه بادعاء النبوّة والتحدّي، بينما أقصى ما تدل عليه الكرامة أنّها تشير إلى مقامٍ حسن لمن جرت على يديه وتؤثّر أحياناً في الاقتناع بقضيّة أو موضوع ما دون بلوغ خصائص المعجز وشروطه.

وعلى أيّة حال، فالأمر ليس مهمّاً، لكنّ التمييز في المصطلح أكثر ضبطاً وانتظاماً وأبعد عن التشويش والوقوع في الخلل، وبخاصّة لو أقحمنا في تعريف المعجز مفهوم الدعوى. ولكن سواء ميّز بينهما لغويّاً أم لم يميّز فذلك سواء عند المعتزلي؛ لأنّه لا يفرّق بينهما في الإضرار بمبدأ النبوّة، وهي التي ـ في تقديري المتواضع ـ يجهد المعتزليُّ في حمايتها عن التهديدات المعرفية.

3 ـ تنويع علماء الكلام للخارق للعادة

حلّل المتكلّمون الظواهر الخارقة للعادة بحسب سياقاتها المختلفة بالرغم من أنّ الجميع خارق العادة تكوينيًّا، فهل كان هذا التنويع مجرّد تحليل محض أو أنّ هناك سبباً تاريخيّاً؟ فهل رأوا ظواهر خارقة تجري على يد غير الصالحين فأثار ذلك حفيظتهم من خطر دخول غير الصالحين في منزلة الصالحين فقاموا بقطع الطريق على أولئك غير الصالحين ففصلوها عن الكرامات، وحينئذٍ بدأت تتكثّر الأنواع لهذه الظاهرة أو لا؟

وحتى نبتعد عن التشويش، فقد تنوّعت أشكال «الخارق للعادة»، حتى أوصلها بعضُ المتكلّمين إلى ما يزيد عن الخمسة، وأبرزها:

أ ـ الكرامة، وهي أمور خارقة للعادة يظهرها الله على يد بعض الأولياء من عباده أو الصالحين؛ كرامةً لهم.

ب ـ الإرهاص، وهو أمر خارق للعادة يظهره الله على يد نبيّه أو يتعلّق بنبيّه قبل نبوّته؛ تمهيداً وتهيئة لقبول الناس له والإيمان به.

ج ـ الإهانة، أو المعجزة المقلوبة أو العكسيّة، وهو الأمر الخارق للعادة الذي يجريه الله على يد مدّعي النبوّة كذباً بهدف فضحه؛ لكونه غير مطابق لدعواه. ويذكرون لهذا النوع قصصاً؛ كما قيل: إنّ مسيلمة حينما أخبروه أنّ النبيّ| بصق في بئرٍ جافّ فخرج الماء، فذهب مسيلمة إلى بئر فيه ماء قليل فبصق فيه فجفّ فهذا شيء خارق للعادة إلا أنّه معاكس لدعوى مسيلمة نفسه.

د ـ المغوثة أو المعونة أو الإعانة، وهو أمر خارق للعادة يظهره الله لمصلحة شخص غير صالح من عباده بهدف تبرئته من تهمة باطلة منسوبة إليه. يقول عبد القاهر البغدادي الأشعري (429هـ): «إن أظهر الله له (يقصد للفاسق) علامةً تدلّ على صدقه وبراءة ساحته مما يُقذف به، جاز ذلك وسمّيناها حينئذ مغوثة (معونة). فالمعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء والمغوثات (المعونات) لسائر العباد»([4]).

هنا نرى في هذا النوع أنّ المتكلّمين أرادوا أيضاً إبعاد غير الصالحين عن الآثار والنتائج الملازمة للكرامة، فلا تثبت لهؤلاء المنزلة والاحترام كما تثبت بالكرامة.

هـ ـ الاستدراج، ويعني أن يُجري الله الخارَق للعادة على يد شخصٍ غير صالح؛ استدراجاً له، كي يزداد ضلاله وانحرافه. مصداقاً في نظرهم لقوله تعالى: ]سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ[ (الأعراف: 182)، فعبّروا عن هذه الظاهرة بالاستدراج؛ كيلا يصنّف غير الصالحين مع الصالحين، فتمنح لهم ذات المنزلة والمقام كما تمنحها الكرامة.

إذن، وجدنا في هذه الأنواع اشتراكها جميعاً في واقعٍ تكوينيّ واحد غير أنّ المتكلمين حاولوا خلع اعتبارات وعناوين مختلفة على سياقات متعدّدة؛ لتمييزها عن الكرامة.

وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ الحديث عن أنّ هذا التنويع هل كان سببه منطلقاً من ذاته أو كانت له مبرّرات تاريخيّة؟ بمعنى أنّ ظهور الخوارق على يد مدّعِي النبوّة أو الولاية الكذّابين أو غير الصالحين، فرض على المتكلّم المسلم إعادة تنويع الخوارق، كي يحمي ظاهرة الكرامات ويُبقي لها اعتباراً، وسوف نتكلّم لاحقاً كيف أنّ بعض التيارات ـ مثل السلفيّة ـ ركّزوا على معرفة الكرامة من خلال معرفة الوليّ، وليس العكس، أي لا يُعرف أنّه وليٌّ من خلال جريان خارق العادة على يديه، بل تُعرف أنّها كرامة من خلال جريان خارق العادة على يد الولي.

4 ـ مشهد الانقسام الكلامي حول إمكان الكرامات

ينقسم المشهد الكلامي حول إمكان الكرامة إلى تيّارين:

1 ـ التيّار المنكر: يذهب المنكرون للكرامات إمّا إلى استحالتها أو إلى إمكانها على الأقل مع عدم وقوعها، فتفسّر تلك الظواهر المسمّاة بخوارق العادة بشكل يأخذها بعيداً عن مفهوم الكرامة.

والمعروف عن أبي هاشم الجبائي والقاضي عبد الجبار المعتزلي وغيرهما المنع عن ظهور الخوارق على يد غير الأنبياء، حتى أنّ بعض هؤلاء منع صدور الأمر الخارق على يد الأنبياء أنفسهم قبل النبوّة، وستأتي أدلّتهم ومنطلقات مواقفهم والتي هي في تقديري المتواضع راجعةٌ إلى مبدأ "حماية ظاهرة النبوة" وإن طرح غير واحد من المفكّرين منطلقات أخرى سيأتي ذكرها. لكن لم يكن جميع المعتزلة من الرافضين للكرامات، بل بعضهم وافق عليها، مثل محمّد بن علي أبي الحسين البصري المعتزلي (436هـ)([5]).

إلى جانب هذا الفريق من المعتزلة يُنسب إلى متقدّمي الإباضيّة عدم القبول بالكرامات، وأنّ كتبهم خلت من ذلك تماماً، حتى فيما يخصّ الصحابة والتابعين وأئمّتهم المتقدّمين، وأنّ انتشار ثقافة الكرامات في الوسط الإباضي هو ظاهرة متأخّرة. وقد نسب الشيخ المفيد شيئاً من ذلك للخوارج والزيديّة أيضاً كما سيأتي نقل نصّه.

ويظهر من ابن حزم الأندلسي([6]) إنكاره للكرامات، كما ينسب هذا الرأي المنكر للكرامات إلى شيخ المالكيّة ابن أبي زيد القيرواني (386هـ)، وكذلك القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الشافعي (403هـ).

ويحاول بعض المنكرين هنا تفسير ما يفهم على أنّه كرامات بأنّه ليس إلا استجابة الدعاء لا غير، وهذا ما نقله ـ على سبيل المثال ـ ابن حجر العسقلاني في بعض كتبه عن أبي الحسن ابن بطّال المالكي (449هـ)، حيث تحفّظ الأخير على ثبوت كثير من الكرامات في العصور المتأخّرة؛ لعدم الحاجة أو الضرورة إليها.

2 ـ التيّار الموافق: وهو المعروف من مذهب الأشاعرة، حيث يقبلون بالكرامات، لكن نُسبت المخالفة لبعضهم، مثل أبي إسحاق الإسفراييني (418هـ)، فقد قال الفخر الرازي: «الكرامات جائزة عندنا، خلافاً للمعتزلة والأستاذ أبي إسحاق‏ منّا. لنا التمسّك بقصّة مريم وآصف، ثمّ تتميّز الكرامة عن المعجزة بتحدّي النبوّة»([7]). وهو ـ أي الرازي ـ يساوي من تمام الجهات، غير التحدّي، بين المعجز والكرامة، غير أنّ بعض المتكلّمين حاول أن يجعل الكرامة أدنى من المعجزة. وقال الذهبي في ترجمة الاسفراييني: «وحكى أبو القاسم القشيري عنه أنّه كان ينكر كرامات الأولياء ولا يجوّزها. وهذه زلّة كبيرة»([8]).

ويذهب جمهور أهل الحديث والسلفيّة إلى قبول الكرامات، استناداً إلى الأحاديث والنصوص الدينية.

أمّا الصوفية والعرفاء، فالكرامات عندهم من المعالم المميِّزة لمذهبهم تاريخيّاً، حتى قيل: ما من معجزة لنبيّ إلا وكان مثلها كرامة لوليّ، وهو ما تحسّس منه بعض العلماء، مثل الاسفراييني الأشعري والسبكي الشافعي في "طبقات الشافعيّة الكبرى" واعتبروه عدوانًا على النبوّة.

وهذا ما عليه أيضاً جمهور الإماميّة الذين ينسبون الكرامات لكثيرين، وبخاصّة للأئمّة من أهل البيت، سواء حال حياتهم أم بعد مماتهم. تماماً كما نسبها بعض أهل السنّة لبعض الخلفاء أيضاً، ولكثير من الصحابة والتابعين، وإن كان الكرامات المنسوبة إلى الإمام علي أكبر بكثير منها في سائر الصحابة، حتى قال التفتازاني الأشعري: «ما تواتر معناً وإن كانت التفاصيل آحاداً، من كرامات الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الصالحين، كرؤية عمر ـ رضي الله عنه ـ على المنبر جيشه‏ بنهاوند، حتى قال: يا ساريةُ، الجبلَ الجبلَ. وسمع سارية ذلك. وكشرب خالد ـ رضي الله تعالى عنه ـ السمّ من غير أن يضرّ به. وأمّا من علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ فأكثر من أن تحصى. وبالجملةوظهور كرامات الأولياء يكاد يلحق بظهور معجزات الأنبياء، وإنكارها ليس بعجيب من أهل البدع والأهواء، إذ لم يشاهدوا ذلك من أنفسهم قط، ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنّهم على شي‏ء مع اجتهادهم في أمور العبادات، واجتناب السيئات، فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات، يمزّقون أديمهم، ويمضغون لحومهم..»([9]).

5 ـ مخالفة بني نوبخت في الكرامات

هذا المنهج الشيعي الإمامي العام يواجهه نقل في غاية الأهميّة للشيخ المفيد يقول فيه: «القول في الإيحاء إلى الأئمّة وظهور الإعلام عليهم والمعجزات. وأقول: .. فأمّا ظهور المعجزات عليهم والإعلام فإنّه من الممكن الذي ليس بواجب عقلاً ولا ممتنع قياساً، وقد جاءت بكونه منهم ـ عليهم السلام ـ الأخبار على التظاهر والانتشار، فقطعت عليه من جهة السمع وصحيح الآثار، ومعي في هذا الباب جمهور أهل الإمامة. وبنو نوبخت تخالف فيه وتأباه، وكثير من المنتمين إلى الإماميّة يوجبونه عقلاً كما يوجبونه للأنبياء. والمعتزلة بأسرها على خلافنا جميعاً فيه سوى ابن الأخشيد ومن اتبعه يذهبون فيه إلى الجواز، وأصحاب الحديث كافّة تجوّزه لكلّ صالح من أهل التقى والإيمان» ثم قال: «القول في ظهور المعجزات على المنصوبين (المعصومين) من الخاصّة والسفراء والأبواب. وأقول: إنّ ذلك جائز لا يمنع منه عقل ولا سنة ولا كتاب، وهو مذهب جماعة من مشايخ الإماميّة وإليه يذهب ابن الأخشيد من المعتزلة وأصحاب الحديث في الصالحين والأبرار. وبنو نوبخت من الإماميّة يمنعون ذلك ويوافقون المعتزلة في الخلاف علينا فيه، ويجامعهم على ذلك الزيديّة والخوارج المارقة عن الإسلام»([10]).

وقال أبو الحسن الأشعري (324هـ): «واختلفت الروافض في الأئمّة هل يجوز أن تظهر عليهم الاعلام أم لا؟ وهم أربع فرق: فالفرقة الأولى.. والفرقة الرابعة [منهم‏] يزعمون أنّ الاعلام لا تظهر إلا على الرسل، وكذلك الملائكة لا تهبط إلا عليهم بالوحي، ولا يجوز أن ينسخ الله سبحانه شريعتنا على ألسنتهم، بل إنّما يحفظون شرائع الرسل ويقومون بها»([11]). ولعلّه يقصد بني نوبخت.

والقدر المتيقّن من مراد المفيد من بني نوبخت كلّ من أبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي (311هـ) ـ وستأتي الحكاية عنه مع الحلّاج الصوفيّ ـ وأبي محمّد الحسن بن موسى النوبختي (310هـ)، اللذين شكّلا مدرسة النوبختيّين الكلاميّة التي تعدّ الفاصل وحلقة الوصل بين مدرسة الكوفة ومدرسة بغداد.

وقد أثيرت هنا احتمالات في أنّ مراد بني نوبخت امتناع ظهور المعجزات على يد الأئمّة وأبوابهم مطلقاً، أو أنّ مرادهم عدم وجود ضرورة أو شرط في صدور المعجزة على يد الإمام كما هي الحال في النبيّ، تماماً كما ينسب لهشام بن الحكم منعه ذلك مع قبوله بصدور المعجزات، ويشهد لذلك أنّ بني نوبخت يقولون بحصول الأئمّة على العلم من الله بطريقٍ غير عادي، وبهذا يكون النزاع لفظيّاً؛ إذ المعجزة مقيّدة بدعوى النبوّة، فحيث لا نبوّة يستحيل صدور المعجزة، فينحصر طريق معرفة الإمام بالنصّ، لا بالنص والمعجزة، كما قاله كثير من علماء الإماميّة بعد كونها معجزة مصحوبة بادّعاء الإمامة.

غير أنّ فهم هذا الكلام من عبارة المفيد في غاية الصعوبة، وربما يكون المفيد مشتبهاً في النقل، حيث يحتاج الأمر إلى التثبّت من صدق ادّعاء أنّ الزيدية يرفضون المعاجز كبعض المعتزلة. لكن على أقلّ تقدير يرفض النوبختيون وقوع المعاجز من الأئمّة أو على الأقلّ من غيرهم وإلا فلا معنى لفرزهم عن سائر الشيعة.

وقد علّق العلامة المجلسي هنا على كلام المفيد بالقول: «والحقّ أنّ المعجزات الجارية على أيدي غير الأئمّة عليهم السلام من أصحابهم ونوابهم، إنّما هي معجزاتهم عليهم السلام، تظهر على أيدي أولئك السفراء لبيان صدقهم، وكلامه رحمه الله أيضاً لا يأبى عن ذلك. ومذهب النوبختيّة هنا في غاية السخافة والغرابة»([12]).

بعد هذه المقدّمات، لا بأس بالشروع في الحديث ضمن محاور عدّة:

المحور الأوّل: الكرامات وجدل الإمكان والوقوع

وقع النزاع بين العلماء في إمكان الكرامات ووقوعها، كما قلنا، وانقسم الموقف، وكان لكلّ فريق أدلّته الخاصّة، ونعرض هنا للتوجّهين المختلفين في الموضوع.

1 ـ إمكان الكرامات ووقوعها، الأدلّة والشواهد

استدلّ الموافقون على الكرامات بالكثير من الأدلّة من نصوص الكتاب والسنّة، ومنها:

الدليل الأوّل: الوقائع التي جرت مع مريم، وهي متعدّدة:

أ ـ موضوع الرزق، قال تعالى: ]كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[ (آل عمران: 37).

ب ـ موضوع تكليم الملائكة لها، قال تعالى: ]وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ[ (آل عمران: 42).

ج ـ ظهور الروح لها وحملها بطريقة خارقة، قال تعالى: ]فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا[ (مريم: 17 ـ 23).

د ـ هزّ جذع النخلة الذي بطبيعته لا يهتزّ بحيث يوجب سقوط التمر. ولو كان الرطب دانياً لتناولته بيدها، بلا حاجة للهزّ.

الدليل الثاني: وقائع آصف بن برخيا([13]).

وقد تحدّث عنها القرآن، مع أنّه لم يذكر اسمه، فقال: ]قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[ (النمل: 38 ـ 40).

هذا، وتوجد نصوص أخرى صنّفت في دائرة الكرامات المشار إليها في القرآن مثل أصحاب الكهف، حيث أقرّ الفخر الرازي بما قالته الصوفيّة من الاستدلال بقصّتهم هنا، وكذلك قصّة أم موسى ونزول الوحي عليها.

الدليل الثالث: الأخبار المتواترة عن أئمّة أهل البيت وعن الخلفاء والصحابة وكثير من التابعين وغيرهم حيث وقعت كرامات لهم. وهي أكثر من أن تحصى. وقد جمع الكثير منها السيد هاشم البحراني (1107هـ) في كتابه "مدينة معاجز الأئمة الاثني عشر ودلائل الحجج على البشر"، وما جمع من معاجزهم يبلغ حوالي 2600 معجزة. وبالمناسبة ففي مصادر أهل السنّة وردت العديد من الكرامات التي نُسبت لأئمّة أهل البيت الاثني عشر بالمفهوم الشيعي بما في ذلك المتأخّرين منهم. كما كتبت الصوفيّة وغيرها كتباً مستقلّة كبيرة في رصد كرامات الأولياء والصحابة والتابعين وغيرهم، مثل كتاب "كرامات الأولياء" لعبد الرقيب بن علي الإبّي، وكتاب "كرامات الأولياء" لأبي القاسم هبة الله بن منصور الطبري (418هـ)، وكتاب "كرامات الأولياء" للحافظ أبي محمّد الخلّال (439هـ)، وكتاب "كرامات الصحابة" لأسعد بن محمّد الطيّب، وكتاب "كرامات الصحابة" لسعيد هارون عاشور، وكتاب "المقامات العليّة (في) والكرامات الجليّة" لابن سيّد الناس اليعمُري (734هـ)، وكتاب "جامع كرامات الأولياء" ليوسف بن إسماعيل النبهاني (1350هـ)، وغيرها من الكتب الكثيرة، وكذلك كتب طبقات الصوفيّة وتراجمهم وغير ذلك. بل بعضهم حاول جمع قصص الكرامات من داخل كتب بعض العلماء مثل الهيثمي، ليضعوها مستقلّة في كتاب وهكذا.

ولكثرة هذه الروايات والقصص، كان النووي الشافعي (676هـ) ممن انتقد منكري الكرامات، وقال بأنّ إنكارَها إنكارٌ للحسّ.

واللافت أنّ العلامة الحلّي لم يذكر هنا عدا كرامات أئمّة أهل البيت النبوي، فإمّا لا يصدّق هو بكرامات أحد غيرهم وقعت للصحابة أو التابعين أو أمّهات المؤمنين أو نحو ذلك، أو يحاول أن يذكر ما هو متفق عليه بين المسلمين مثلاً، والعلم عند الله.

والذي لفت نظري هنا أنّني لاحظت أنّ بعض قصص الكرامات المرويّة عن بعض الصحابة والتابعين وتابعيهم هي بنفسها تقريباً مرويّة عن أئمّة أهل البيت! ولا أدري هل تكرّرت أو تمّت سرقة قصّة أو غير ذلك.

الدليل الرابع: قوله تعالى: ]أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ (يونس: 62 ـ 64). حيث فسّرت "البشرى" بالكرامة في الدنيا.

مناقشات نقّاد الكرامات لأدلّة وقوعها

لقد خضعت هذه الأدلّة والشواهد إلى مناقشات مركّزة من قبل منكري الكرامات، وأبرزها:

1 ـ أمّا قصّة مريم، فقد ذكرت ثلاث محاولات جوابيّة:

المحاولة الأولى: إنّها إرهاص لنبوّة عيسى، فكلّ ما وقع معها ليس إلا لأجل أن يخلق الله سياقاً تمهيديّاً لتأكيد نبوّة عيسى، ولولا عيسى لم يكن هناك شيء من ذلك مع مريم.

وفي تقديري فهذا الكلام معقول، ويكفي احتماليّته لنفي ثبوت الكرامة لها بمعزل عن نبوّة نبيٍّ من الأنبياء، لكنّ سياق النصوص القرآنية يعطي لها مكانة استثنائية واصطفاءً خاصّاً وتطهيراً، بحيث كانت بهذا أهلاً لتكون والدة عيسى، لا أنّها لكونها والدة عيسى صار لها هذا من قَبل ولادتها له بسنين.

المحاولة الثانية: إنّ معجزات مريم ـ والظاهر أنّهم يريدون خصوص موضوع الرزق ـ هو معجزة لزكريا، لا لمريم، وزكريّا نبيٌّ من الأنبياء. وفي هذا يقول القاضي عبد الجبار: «وجوابنا أنّ ذلك من معجزات زكريّا، فإنّما قال لها: أنّى لك هذا، لا لأنه لم يعلم أنّ ذلك من معجزاته، لكن ليعرف‏ حالها وما تعتقده في ذلك، فلذلك قال تعالى: ‏]هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ[؛ لأنّه عرف منها اليقين، فلمّا أعجبه ذلك سأل الله أن يرزقه ولداً فبشّره الله بيحيى على ما نطق به الكتاب»([14]).

لكن يمكن مناقشة هذه المحاولة بأنّها متكلّفة، فلماذا اندهش زكريّا؟! وهل كان يقوم بتمثيليّة غرضها معرفة ردّ فعل مريم؟! هذا يحتاج لدليل. وأمّا الآية فلا تدلّ على مدّعى القاضي عبد الجبار؛ لأنّ الدافع لحماسة زكريّا للدعاء ليس ردّ فعل مريم، بل الواقعة الإعجازيّة نفسها، والنظر في السياق القرآني يعطي ذلك بينما افتراض القاضي المعتزلي يحتاج لتقدير محذوفات غير منطوقة في الآيات هنا. فالنص القرآني يفيد أنّ زكريّا تأثر بالواقعة وبفكرة أنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب، الأمر الذي فتح عنده باب الأمل، ويشهد لذلك أنّ زكريّا لمّا بشر من قبل الملائكة كان مندهشاً أيضاً ويشعر ببعد احتمال تحقّق شيء من هذا القبيل وهو في هذه السنّ وامرأته عاقر، فلو أنّه تعلّم من مريم الثقة والعقيدة، وكانت المعجزات وقعت على يديه هو لا كرامةً لمريم بنت عمران، لما فوجئ، ولهذا طلب الولد من الله.

المحاولة الثالثة: ادّعاء أنّ مريم نبيّةٌ من الأنبياء، وهذه الدعوى لم يدّعها فقط بعض المعتزلة، بل هي موضوع مطروح حتى من قبل غيرهم، فالقرطبي ذهب لكونها نبيّة([15])، وساق على ذلك شواهد. وقال ابن عطية الأندلسي: «واختلف الناس في نبوّة مريم، فقيل: كانت نبيّة بهذا الإرسال والمحاورة للملك، وقيل: لم تكن نبيّة وإنّما كلّمها مثال بشر ورؤيتها لملك كما رئي جبريل في صفة دحية وفي سؤاله عن الإسلام، والأوّل أظهر»([16]).

وفكرة نبوّة غير الذكور من القضايا المطروحة في التراث الإسلامي، ولهذا قال كمال الدين محمّد الشافعي (906هـ): «وعلى اشتراط الذكورة جرى من حكى الإجماع على عدم‏ نبوّة مريم÷ كالإمام والبيضاوي وغيرهما، ولم يبالوا بشذوذ من زعم ثبوتها، تمسّكاً بقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا (سورة مريم: 17)، وقوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ‏ (سورة آل عمران: 41).. الآيتين. ويجاب عنه بأنّه ليس وحياً بشرع؛ إذ لا دلالة عليه في الآيات المذكورة»([17]).

وقال ابن حجر العسقلاني (852هـ): «وقد نُقل عن الأشعري أنّ في النساء عدّة نبيّات، وحصرهنّ ابنُ حزم في ستّ: حوا وسارة وهاجر وأمّ موسى وآسية ومريم، وأسقط القرطبي سارة وهاجر، ونقله في التمهيد عن أكثر الفقهاء. وقال القرطبي: الصحيح أنّ مريم نبيّة، وقال عيّاض: الجمهور على خلافه. ونقل النووي في الأذكار أنّ الإمام نقل الإجماع على أنّ مريم ليست نبيّة، وعن الحسن ليس في النساء نبيّة ولا في الجنّ. وقال السُّبكي الكبير: لم يصحّ عندي في هذه المسألة شيء، ونقله السهيلي في آخر الروض عن أكثر الفقهاء..»([18]).

هذه المحاولة تفرض إعادة تعريف مفهوم النبوّة، فهل الشريعة مقوّم لمفهوم النبوّة أو أنّ المقوّم لها هو اتصال الإنسان بالله مباشرةً أو بطريق الملك ليطلب منه ـ على المقلب الآخر ـ دعوة الناس لله والإيمان به؟ ليس في القرآن ما يؤكّد شرطيّة الشريعة ولا شرطيّة الذكورة في النبوّة، بل العبرة بالاتصال المتضمّن لتكليفه بمهمّة رسميّة، وهي دعوة الخلق لله وعبادته وتوحيده. بل ثمّة ما يفرض تساؤلاً آخر وهو أنّه هل يشترط في النبيّ أن يُعلن بأنّه نبيّ؟ وهل يشترط في كلّ نبي أن تكون له معجزة؟ وهل المهم في كلّ نبيّ مطلقاً تصديق الناس بنبوّته أو المطلوب استجابة الناس لمضمون ما يأمرهم به ويدعوهم إليه وهو العبادة والتوحيد وحسن الخلق وهو تارةً يتطلّب التصديق بنبوّته وأخرى الاقتناع بمضمون كلامه فحسب؟

هذه أسئلة كلّها مثيرة للغاية هنا، ومن ثمّ فاحتماليّة كون مريم ـ وغيرها ـ نبيّة، هي احتماليّة قائمة. واليهود يؤمنون بنبوّة جملة من النساء. نعم مفهوم النبوّة التشريعيّة حالة خاصّة ببعض الأنبياء.

ولكنّ المشكلة الوحيدة هنا هو أنّ النصّ القرآني والحديثي لا يوحي لنا أنّ مريم حملت لمحيطها أيّ مسؤوليّة دعويّة أو نحوها، عدا حملها بعيسى! والقرآن أشار لكونها صدّيقة، ولم يشر لكونها نبيّة، فاحتماليّة النبوّة بمعنى الاتصال المتضمّن لحمل مهمّة للعباد، تظلّ في مريم ضعيفة من الناحية الإثباتيّة والتاريخيّة. بل ـ وكما قال الآلوسي([19]) ـ فإنّ قوله تعالى: ]مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ[ (المائدة: 75)، واضح في وضعه المقابلة بين الصدّيقة والرسول، فلو كانت نبيّة لكان من المناسب جدّاً هنا أن يشير لنبوّتها؛ لأنّ هذا أنفع للاحتجاج.

وأمّا قصّة آصف بن برخيا، فقد حاول بعض المعتزلة تبريرها بأنّ ما وقع هو معجزٌ لسليمان× مع بلقيس، فكأنّ سليمان يقول: إنّ بعض أتباعي يقدر على هذا مع عجزكم عنه، ولهذا أسلمت بعد الوقوف على معجزاته.

ونظير هذا التبرير مطروح بكثرة عند بعض المعتزلة في كرامات أولياء الأمّتين المسيحيّة واليهوديّة؛ فيرونها في الحقيقة كرامات لأنبيائهم، لا لنفس الأولياء، بالرغم من كون محلّ حدوثها فيهم.

لكن نوقش هذا الكلام بأنّه إقرار بصدور الخارق للعادة على يد غير النبيّ، ولهذا قال التفتازاني: «ونحن لا ندّعي إلا جواز ظهور الخوارق من بعض الصالحين غير مقرونة بدعوى النبوّة ولا مسوقة لقصد تصديق نبيّ ولا يضرّنا تسميته إرهاصاً أو معجزة لنبيّ هو من أمّته..»([20]). وبهذه الطريقة يمكن جعل جميع كرامات أمّة محمّد داخلة في سياق إثبات نبوّته، بأن يقال بأنّه إذا كان أتباعه يقومون بذلك، فكيف به؟! وهذا خير دليل على نبوّته مثلاً.

بل يمكن أن نضيف أكثر وهو أنّ ظاهر النصّ القرآني في قصّة سليمان واضح في كون أصحاب سليمان يملكون هذه القدرة من قَبل، ولهذا جاء وسألهم عن الإتيان بعرشها، ولهذا لا ينبغي الوقوف عند القصّة بوصفها حدثاً واحداً، بل هي حدثٌ جاء في سياق كون هؤلاء يملكون هذه القدرات من قَبل. وعلى المنكر للكرامات أن يثبت أنّ حصولهم على هذه القدرات كان هو معجزة سليمان نفسه.

نعم، لعلّ بإمكان المعتزلي أن يناقش هنا في قصة سليمان، بنفي وجود دليل على كون الذي عنده علم من الكتاب من البشر، فالقرآن لا يحكي لنا عن هويّته، ومن ثمّ فيمكن أن يكون من الجنّ الصالحين، والمفروض أنّ الكرامات التي نبحث عنها تتعلّق بالبشر. والروايات في الموضوع مختلفة، فإن عمّم المعتزليُّ النفيَ لمطلق خارق للعادة ولو من غير البشر، كانت قصّة سليمان جواباً عليه، وإلا فلا.

وأمّا كرامات الصحابة والأئمّة والأولياء، فقد حاول بعض المعتزلة تأويلها أيضاً بحيث جعلوها تكملةً لمعاجز النبيّ على نفس النسق السابق لأجوبتهم. غير أنّ هذا الكلام يمكن أن يسمح بظهور الكرامات في الأمّة المحمديّة بالتبرير نفسه، كما قلنا قبل قليل.

وبصرف النظر عن ذلك، فإنّ بعض المعتزلة شكّك في أصل وقوع هذه الكرامات ـ بالرغم من الوفرة الهائلة التي يسوقها المثبتون لها ـ واعتبرها أموراً مختلفاً فيها، ولهذا يقول القاضي عبد الجبار: «لو كانت تظهر على الصالحين، لكانت بأن تظهر على السلف الصالح من كبار الصحابة أولى [بأن‏] تظهر على غيرهم ممن يشكّ في حالهم. وقد صحّ وثبت بتواتر الأخبار أنها لم تظهر عليهم، ولأنّ القوم لم يدّعوا ذلك فيهم. فإن قالوا: قد صحّ ظهورها على عمر بن الخطاب، في غير موقف، وكذلك على أمير المؤمنين علي، في غير موضع، فكيف استجزتم ما ادّعيتموه؟ قيل لهم: إنّما كان يصحّ ما ذكرتم لو كان مسلّماً؛ فأمّا والمنازعة فيه فلا وجه لذلك. وإنّما ألزمناكم ما ذكرناه، لأنّكم تدّعون في ظهورها على شيبان الراعي، ومعروف الكرخي وبشر الحافي وسهل بن عبد الله، أخباراً قويّة كثيرة، وتعتمدون في ذلك، فقلنا لكم: لو كان ذلك حقّاً لكان بأن تقوى الأخبار وتكثر في السلف الصالح وفي التابعين من بعدهم من العلماء والزهاد، أولى. وبعد، فلو كان الأمر كما زعمتم لكان أولى بأن يظهر المعجز على أمير المؤمنين في حال منازعة غيره‏ له‏ كمعاوية وغيره؛ لأنّه كان أقوى في إزالة الشبهة وفي الاستغناء عن التحكيم الذي نتج من خلاف الخوارج ما نتج. وفقد ذلك من أول الدلالة على أنّ الأمر لا حقيقة له. وبعد، فلو صحّ ذلك لكان يجعل ظهور المعجزات دلالة على أنّه أولى بالأمر من معاوية، وطبقته أولى من سائر ما يروى في هذا الباب؛ وكان ظهورها ربما يغني عن تكليف المحاربة. فكيف يجوز، مع شدة حاجة الناس إلى فقه الحسن وسعيد بن المسيّب والتعلّم منهما والرجوع إليهما، ألا يظهر ذلك عليهما، ويظهر على من لا خطر له يعظم من الصالحين، على ما تذهبون إليه؟ وهل يجوز في حكمة الحكيم أن ينبّه بالمعجزات على فضل الفاضل إلا لغرض صحيح يرجع إلى المكلّفين؛ وأكثر الأغراض التعلّم والتأسّي؟ فمن حاله فيهما أكثر فظهور المعجز عليه أولى..»([21]).

ويظهر من القاضي المعتزلي أنّه يريد التماس مبرّر عقلاني لظهور المعجزة، ويحاول أن يقيس ذلك بعقله العملي وأولويّاته، فيعتبر أنّ ظهور مئات الكرامات على عليّ في خارج سياق الحاجة والمنعطفات التاريخيّة في حياته والتي تتطلّبها المصلحة العامّة أمرٌ غير معقول، مع أنّ الحاجة إليها في مواقف المواجهة مع خصومه وأعدائه أولى مع اتخاذها طريقاً عملانيّاً لتكريس المبادئ الإسلامية وإرسائها في المفاصل المهمّة؟ فما السرّ في أنّه كيف لا تكون المعجزات إلا أمام عدد قليل من الناس وفي الزوايا المغلقة بينما تختفي المعجزات العامّة في سيرة الأوصياء والأولياء؟! هذا هو مقصوده. كما أنّه قد يُفهم منه أنّ كلّ كرامة لوحدها لماذا لم تنقل بطريق متواتر مع كثرة الدواعي لتداولها؟ ولماذا كانت خاصّة يرويها واحدٌ فقط هنا وآخر هناك وقد لا نعرف معلومات عن وثاقة ودقّة الناقل؟! ولماذا لا تنقل إلا بعد وفاته عادةً؟! ويظهر من بعض النقّاد أحياناً تركيزهم على عدد الكرامات، وأنّ هذا العدد الكبير يظهر أنّه غير معقول، وسيأتي الحديث عن موضوع إثبات الكرامات بأخبار الآحاد وغيرها، وكيف تولد مثل هذه الحكايا من منظور نفسي واجتماعي.

غير أنّ نقّاد المعتزلة يقولون بأنّ هذه التأوّلات تخالف المتواترات، فعدد الكرامات التي وقعت يمكن أن تصنّف بالآلاف، ولا يحتمل كذب جميع هذه المرويّات، وأمّا أنّ عدد الكرامات في الصحابة قليلٌ فقد حاول بعضهم تبرير ذلك من خلال أنّ من مبرّرات الكرامة تقوية إيمان صاحبها بنفسه، وحيث كان الصحابة والأئمّة فوق هذا المستوى لهذا قلّت الكرامات فيهم، وبدأت تزداد حضوراً مع التابعين ومن بعدهم.

والسؤال الذي يفرض نفسه هل هذا تواتر او انتشار؟ وهل قام أحد بدراسة هذه القصص بطريقة علميّة؟ سوف نشير لهذا الموضوع لاحقاً، فانتظر.

وأمّا قصّة الآية الكريمة، فلا دليل على أنّ "البشرى" في الآية تعني الكرامة وإنّما هو تحكّم وتأوّل، فقد تكون البشرى نصراً أو عزّاً أو مضاعفة إيمانٍ وتقوى أو رفع الغمّ والهمّ أو غير ذلك.

2 ـ المنع عن صدور الكرامات، عرض لأبرز أدلّة المعتزلة وأنصارهم

يشير المحقق الطوسي والعلامة الحلّي في التجريد وشرحه هنا لخمسة وجوه فقط فيما بلغت المناقشات التي قالها المعتزلة أكثر من خمس عشرة مناقشة، ولكنّ الكثير منها متداخل وبعضها ضعيف جداً.

ويظهر من المعتزلة هنا حرصهم على مشروع النبوّة في أدلّتهم على إبطال الكرامات حتى وإن كان للنبوة محاولات استدلاليّة أخرى عديدة بعيدة عن جدليّة المعجزة والكرامة. وهناك من يرى أنّ حرصهم كان على نقد المرجئة لتكريس التلازم بين القول والعمل([22])، وكأنّ المعتزلي لاحظ أنّ أصحاب الكرامات المزعومين لا يتناسب قولهم وإيمانهم مع عملهم، وهي الملاحظة التي عاد وسجّلها علماء السلفيّة على أصحاب الكرامات من الصوفيّة. لكن يبدو لي أنّ التحليل الأوّل لمنطلقات المعتزلة أقرب.

2 ـ 1 ـ تحويل خارق العادة إلى أمرٍ عادي، عرض ومناقشة

عصارة الفكرة هنا هو أنّه لو كان كلّ إنسان صالحٍ وتقي يمكن ظهور الكرامات على يديه، وربما في حياته تكون هناك عشرات الكرامات، لا لغايةٍ، بل لمجرّد إدخال السرور على قلبه من الله وإبراز محبّة الله له وإكرامه، فهذا يعني أنّ عدد المعاجز سيكون هائلاً، السرّي منها والعلني، وهذا يعني أنّ حالة خرق العادة سوف تتبدّل لحالة الأمر العادي، وهو نقيض مفهوم المعجزة وتعريفها. وكأنّ المراد هو أنّ ندرة المعاجز حالة مطلوبة؛ لأنّ كثرتها في كلّ العصور والأزمنة يوجب خروج هذه الظاهرة عن حدّ تعريف المعجزة التي هي أمر خارق للعادة وغير معتاد.

ويمكننا تسمية هذه الإشكاليّة بإشكاليّة التنافي مع تعريف المعجزة وحدّها.

أمّا الجواب عن الإشكاليّة الأولى هذه، فيظهر من نصير الدين الطوسي هنا الموافقة على أصل إشكاليّة المعتزلة المثارة هنا، غاية ما في الأمر أنّه يريد أن يضعها ضمن حدودها، وذلك عبر القول بأنّنا نشترط في الكرامة أن لا تبلغ من حيث الكثرة ما يوجب صيرورتها أمراً معتاداً، وهذا أمرٌ يعود تقديره إلى الله سبحانه، فإشكاليّة المعتزليّ لا تُبطل الكرامة، وإنّما تحدّد نسبة وقوعها في الخارج.

لكنّ هذا الكلام يتنافى مع روح فكرة المعجزة عند بعض المخالفين للمعتزلة هنا، ومنهم العلامة الحلّي، حيث ذكر في مناقشة الأدلّة القادمة أنّ قيمة المعجزة تكون في كونها أتت عقب دعوى النبوّة، وهذا هو امتيازها، فما المانع ـ بناءً على هذا ـ أن تكون المعاجز كثيرة للغاية، لكنّ العقل يحكم باستحالة تحقّقها لو سبقها دعوى نبوّة؛ لأنّ تحقّقها في هذا الحال قبيح عقلاً؟! وفارق المعجز عن الأفعال العادية أنّ البشر لا يأتون بها كما يقومون بأفعالهم العادية الاختياريّة، بل تقع على أيديهم بفعلٍ إلهي، فهم موضوع وقوعها ومحلّه، لا أنّهم الفاعل لها، فانتبه، فالكثرة ـ بناءً على هذا ـ لن تؤثر شيئاً.

2 ـ 2 ـ استلزام الكرامات ضمور إقبال الناس على الأنبياء (التنفير)

جوهر الفكرة هنا يكمن في أنّه لو أمكن لأناسٍ كثيرين أن يأتوا بما يأتي به النبيّ، لسقطت الحالة الاستثنائيّة التي يتمتّع بها النبيّ وفَقَد هيبتَه ومكانته، بل ولظهر تساؤل: لماذا يجب علينا إطاعته هو دون غيره، والكلّ في الخواصّ سواء؟! فهل منحه الله شيئاً غير الآخرين يقتضي تقدّمه؟!

وبهذا يظهر أنّ الأنسب عدم استخدام كلمة "التنفير" هنا، خلافاً لما فعله بعضٌ، والاستعاضة عنها باستلزام الكرامات ضمور إقبال الناس على الأنبياء.

وقد مثّل العلامة الحلّي هنا للقضية بقوله: «ولهذا لو أكرم الرئيس بنوع ما كلَّ (مأكل) أحد هان موقع ذلك النوع لمن يستحقّ الإكرام»([23]).

لكنّ هذا التمثيل بهذه الطريقة مشوّش جدّاً، وقد أربك الشرّاح؛ وقد حاول تفسيره الشيخ السبحاني في تعليقته على "كشف المراد" بالقول: «الظاهر أنّ الفعل في "أكرم" مبنيٌّ على المجهول، و"مأكل" بمعنى "المأكول"، وقوله: "ذلك النوع" إشارة إلى المأكول، والمقصود من "لمن يستحقّ الإكرام" هو الرئيس، والمعنى: لو أُكرم الرئيسُ بالمأكول المتوفر الذي يستفيد منه كلّ الناس، لهان ذلك المأكول عند من يستحقّ الإكرام. ولعلّ للعبارة معنى آخر لم نقف عليه»([24]).

ولكنّ تفسير السبحاني يناقض الفكرة الموجودة، فالفكرة هو ابتعاد الناس عن الأنبياء، في حين تفسير السبحاني يتمركز حول تلاشي أهميّة المعجزة في نفس النبيّ نفسه وإحساسه بأنّها هيّنة وليست شيئاً يمنحه الله له، فكأنّ السبحاني فسّر الكلمة الأخيرة من المثال بطريقة توجب جعل المثال مختلفاً عن الفكرة التي سيق المثال نفسه لأجل تقريبها، وهي فكرة التنفير وزوال الطاعة.

وبطريقةٍ ما حاول السيد هاشم الحسيني الطهراني (1411هـ) تفسير العبارة فقال: «قول الشارح: لو أكرم الرئيس الخ.. على صيغة المجهول، أي لو أُكرم بنوع من مأكل أحد من الرعيّة هان موقع ذلك النوع من المأكل عند الرئيس وكان موجباً لإهانته بسبب أنّه مأكل من لا يستحقّ الإكرام من أفراد الرعيّة، فتشريك الرئيس والرعية في نوع المأكل في الضيافة يوجب تشريكهما في عدم الإكرام، مع أنّ الرئيس مستحقٌّ للإكرام والرعية لا، وكذا ما نحن فيه، فإنّ تشريك النبي وغيره في إتيان المعجزة يوجب تشريكهما في عدم وجوب الإطاعة»([25]).

وحاول آخرون([26]) تقديمَ تفسير آخر اعتماداً على الموروث المعتزلي الذي استقى منه العلامة الحلّي مثالَه هذا، وهو أنّ الرئيسَ في الجملة فاعلٌ، وهو قد أكرم بشيءٍ ما كلَّ من تحت يده، فهنا يصير هذا الشيء الذي أكرم به هيّناً وغير ذي قيمة بالنسبة لمن يستحقّ الإكرام، فلم يعد الناس يعرفون أيّ شخص هو المكرّم عند الرئيس، وهو قد كرّم الجميع.

وفي تقديري، فإنّ جملة العلامة الحلّي مرتبكة، والتفاسير التي تقال في حقّها ولو كانت صحيحة، لكنّها لا تبرّر طريقة صياغة العلامة لها بهذا الشكل، والله العالم.

وعلى أيّة حال، ففي سياق الجواب على الإشكاليّة الثانية قد يقال هنا بأنّه لو صحّت مقاربة المعتزليّ للزم صيرورة ظهور المعجزة على يد عددٍ كبير من الأنبياء موجباً لتنزّلها وتنزّلهم! فكما لا إهانة في ذلك، لا إهانة في ظهورها على يد الأولياء.

لكنّني أعتقد بأنّ هذا الجواب لم يفهم فكرة المعتزليّ، فليس الأمر في عدد من تظهر المعجزة على أيديهم، بل في نوعيّتهم من حيث وجوب طاعتهم ولزوم تصديقهم وتحقّق الغاية من جريان المعجزة على أيديهم، فالمعتزلي ليست مشكلته عدد المعجزات، بل مشكلته عدد الذين تجري المعجزة على أيديهم وهم غير أنبياء، وتأثير هذه الظاهرة على صيرورة المعجزة تكريماً غير استثنائي للنبيّ، فلو كان في مكّة لوحدها مائة إنسان صالح تجري المعاجز على أيديهم، وكانت مكّة الصغيرة هو كلّ هذا العالم، فمن الطبيعي أن يقول مشركو قريش للنبيّ محمّد: ليس ثمّة شيء استثنائي أتيت به يوجب تميّزك ويفرض طاعتك، والمعاجز موجودة بيننا بكثرة قبلك ومعك وبعدك، من دون فكرة الطاعة.. هذه هي فكرة المعتزلي.

نعم، مشكلة المعتزلي ـ بحسب بيان النصير الطوسي والعلامة الحلي وغيرهما ـ تكمن في استخدامه مفردة التنفير، وكان أفضل له استخدام مفردة عدم التأثير، فالكرامات تسلب المعاجز قدرة التأثير على الناس. وسنرى هذه الفكرة لاحقاً؛ حيث إنّ هذه الأدلّة ومناقشاتها فيها تكرار وتداخل كما قلنا.

وربما من هنا حاول بعضٌ تقديم جواب آخر، وهو أنّ كرامات الأولياء هي في الحقيقة معاجز للأنبياء؛ لأنّ قدرة الآحاد من الأمّة على المعجزة دليلٌ قويّ على نبوّة صاحب هذه الأمّة. من هنا يقول التفتازاني: «ظهور خوارق العادات من الأولياء أو الولي الذي هو من آحاد الأمة معجزة للرسول الذي ظهرت هذه الكرامة لواحد من أمّته؛ لأنه يظهر بها، أي بتلك الكرامة، أنّه ولي. ولن يكون وليّاً إلا وأن يكون محقّاً في ديانته. وديانته الإقرار باللسان، والتصديق بالقلب برسالة رسوله، مع الطاعة له في أوامره ونواهيه، حتى لو ادّعى هذا الولي الاستقلال بنفسه وعدم المتابعة، لم يكن وليّاً، ولم يظهر ذلك على يده. والحاصل: أنّ الأمر الخارق للعادة هو بالنسبة الى النبيّ× معجزة، سواء ظهر ذلك من قبله أو من قبل آحاد من أمّته. وبالنسبة إلى الولي كرامة؛ لخلوّه عن دعوى نبوّة من ظهر ذلك من قبله..»([27]).

لكنّ هذا الجواب ينظر فقط للأمّة الإسلاميّة التي تعتقد بأنّه لا يوجد نبيّ بعد نبيّها، لكن لو عكسنا الأمر، وتكاثرت الكرامات في الأمّة المسيحيّة، ثم ظهر شخص مثل النبيّ محمّد يؤمن بعيسى وموسى ورسالاتهما، وأتت معجزة على يديه، هل سيكون تأثير المعجزة حقيقيّاً أو لا؟ ولنفرض أنّ محمّداً ظهر في روما التي تعجّ بكرامات القدّيسين والأولياء، هل كان تأثير معجزته مشابهاً لتأثيرها على قريش التي لم تعرف في حياتها كرامة؟! هذا هو السؤال، فجوهر القضيّة في سلب قدرة تأثير المعجزة إقناعيّاً أو إضعافها جدّاً تبعاً لنسبة وجود الكرامات من قَبل في المجتمع الذي ظهر فيه النبيّ.

بل ثمّة مشكلة إضافيّة هنا لو سرنا في التفكير على طرائق المتكلّمين، وهو أنّه تمّ تصوّر أنّ ظهور الكرامات على يد الصالحين حيث لا توجد دعوى نبوّة، لا مفسدة من ورائه، لكن قد يقال ـ بعيداً عن تأثير ظهور الكرامات على معاجز الأنبياء ـ بأنّ ظهور الكرامات يقوّي أفكار وعقائد وسلوكيّات الجماعة التي ظهرت فيها هذه الكرامات لدى أبنائها؛ ولهذا نجد أنّ الكثير من الشيعة يشتدّ إيمانهم عبر قصص كرامات علمائهم، والصوفية يعظم وثوقهم ويقينهم بسلامة طريقتهم ومنهجهم عبر هذه الكرامات الهائلة التي تجري على يد أوليائهم وهكذا أهل السنّة مع الصحابة والتابعين، فلو فرضنا بطلان التشيّع أو التصوّف أو التسنّن، بمفهومها الخاصّ، ماذا ستكون النتيجة؟! فالكرامات وإن لم يصاحبها ادّعاء مباشر للنبوّة أو للإمامة أو لغيرهما، لكنّها تترك تأثيراً في نفوذ أفكار خاطئة في الناس نتيجة ملاحظتها هذه الكرامات، فتأمّل جيّداً.

2 ـ 3 ـ الكرامات تنافي الإبانة والتميّز في الأنبياء

هذا الدليل طرحه أبو هاشم الجبائي، غير أنّه ظهرت ثلاثة تفسيرات له، أحدها تفسير القاضي عبد الجبار، وهو الذي اختاره العلامة الحلّي في شرح التجريد، وسوف نرى أنّه بناء على هذا التفسير لن يكون هناك فرقٌ معتدّ به بين الدليل الرابع للمعتزلة هنا والدليل الثالث. وقد بيّن التفاسير المتعدّدة لهذا الدليل عند المعتزلة محمود بن مختار العجالي المعتزلي (ق 7هـ)([28]).

وعلى أيّة حال، فحاصل هذا الدليل أنّ المعجز يفيد تخصيص النبيّ بشيء يميّزه عن سائر أفراد البشر، وهذا التخصيص يؤدّي إلى إبانته عنهم، بمعنى انفصاله عنهم، فإذا فرضنا أنّ خرق العادة تَوَفَّرَ لغير الأنبياء لم يعد للأنبياء أيّ شيء يفصلهم عن غيرهم ويخصَّصون به، فكأنّ المعجز هو الفصل المقّوم للنبوّة والذي يفصلها عن غيرها، بل وبناءً على تفسير آخر لهذا الدليل يمكن استخدام هذا التعبير: بوجود المعجز تكون النبوّة وبعدمه يكون عدمها؛ ولهذا قال العجالي المعتزلي وهو يسرد أحد تفاسير دليل الجبّائي: «وبعضهم يشترط الدلالة بطريق الإبانة أنّ معناه أنّ المدّعي النبوّةَ لو ظهر عليه المعجز، فإنّه يثبت صدقه، وإن لم يظهر عليه، فإنّه يظهر ويثبت كذبه؛ إذ لو لم يستدلّ بعدم ظهور ذلك على كذبه لم يمكننا أن نقطع بعدم نبوّة شخصٍ ما. فثبت أنّ دلالة المعجز على النبوّة على سبيل‏ الإبانة، أي وجوده يدلّ على النبوّة، وعدمه يدلّ على عدمها..»([29]).

وربما يكون هؤلاء المعتزلة قد انطلقوا في فهم حصر المعجز بالأنبياء من مثل قوله تعالى: ]قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[ (إبراهيم: 11). بناءً على تفسير السلطان بالمعجز الممنون به عليهم.

وقد أجيب عن إشكال الإبانة هنا بما حاصله أنّ تميّز وإبانة الأنبياء يكون بأمرٍ مكوّن من جزأين: المعجز مع دعوى النبوّة، المقترنين ببعضهما، فليس غير الأنبياء يكون لهم ذلك.

غير أنّ هذه الطريقة تجعل نفس ادّعاء الشخص جزءاً من دليل صحّة ادّعائه، وهو غير معقول، وقد ألمح لذلك القاضي عبد الجبار في قوله: «إنّ ذلك لا يصحّ؛ لأنه يوجب أن يشترط، في دلالة الشي‏ء على غيره، انضمام المدلول إليه؛ وذلك لا يصحّ، كما لا يصحّ في سائر الأدلة، فيجب أن تكون الدلالة على صدق الأنبياء هو المعجز فقط»([30]).

ومن هنا، فالأفضل تغيير صياغة الفكرة بالتخلّي عن تركيب الدليل من جزأين، إلى جعله جزءاً واحداً، وهو المعجز حال كونه آتياً عقب دعوى النبوّة.

2 ـ 4 ـ العام لا يدلّ على الخاصّ

ينطلق المعتزليُّ هنا من أنّ المعجز لو كان يعمّ النبيَّ وغيره، فالعام لا يدلّ على الخاصّ، إذ ما دام العامّ ليس مختصّاً بالأنبياء، فظهوره على يدهم لا يدلّ على نبوّتهم، تماماً كما لو قلنا بأنّ الدليل دلّ على وجود طائر في الغرفة انطلاقاً من رؤيتنا شيئاً يطير، فهذا الدليل عام لا يختصّ بطيرٍ بعينه، فيمكن به إثبات وجود الطير، لكن لا يمكن به إثبات أنّه طائر اللقلق وليس طائر السنونو مثلاً. والأمر هنا كذلك، فمن جرت المعجزة على يده يمكننا القول بأنّه إنسان صالح محبوب لله، لكن لا يمكن إثبات أنّه نبيٌّ؛ لاحتمال أنّه وليّ.

2 ـ 5 ـ تجويز إظهار المعجزة على يد كلّ صادق!

قال المعتزلة بأنّه لو جاز إظهار المعجز على صادقٍ ليس بنبيّ، لجاز إظهاره على كلّ صادق، فجاز إظهار المعجز على المخبِر بالجوع والشبع وغيرهما.

يحاول هذا الدليل إثبات عموميّة المعجزة، الأمر الذي يوجب ضرباً من الاستهزاء بها وفقدان قيمتها، وذلك أنّه لو كانت المعجزة تجري لإثبات صدق شخص في دعواه لجرت في إثبات صدق أيّ شخص، فلو قال خالد: إنّ زيداً أخذ منّي ألف درهم، وكان صادقاً، جاز إجراء المعجز على يده لإثبات صدقه. وبعبارة أخرى: لو كانت أغراض إظهار المعجز بسيطة كإدخال السرور على قلب الوليّ، أو لحاجات طفيفة كما يزعم الصوفيّة، لجرت المعاجز على يد الكثير من الصادقين!

يقول العجالي المعتزلي: «لو جاز ظهورها على الصالح لغرضٍ آخر غير التصديق في دعوى النبوّة، إمّا غير معلوم لنا أو معلوم لنا بجواز أن يكون الغرض حصول السرور وإيصال الجزاء إليه، أو الدلالة على صدقه وصلاحه، لجاز إظهاره على الصبيّ لغرض إنقاذه من الغرق أو الحرق أو الجوع أو العطش، ولو جاز ذلك لجاز أيضاً إظهاره على الفاسق أو الكافر لبعض هذه الأغراض. وذلك من أعظم مما ينفى عن الأنبياء إذا أمكن أن يظهر ما يدّعى به الاختصاص والتميّز على فاسق أو كافر بالله»([31]).

وقد أجيب هنا بأنّ الكرامات لها غايات محدّدة، كإظهار مكانة الصالحين إكراماً وتعظيماً، ولا ندّعي جواز ظهورها على مطلق الصادق، فمن الغريب دعوى العموميّة هنا!

لكنّني أعتقد بأنّ هذا الجواب غير كافٍ؛ إذ بمجرّد أن يحتمل وجود مصلحة يعرفها الله في إظهار معجز على يد صادق أو صبيّ، فهذا معناه انفتاح باب الإمكان الذي لن يغلقه العقل النظري ولا العقل العملي، بل السؤال هو: ما الدليل على حصر المعاجز بالأنبياء والأولياء؟ ومن أين عرفتم أنّ الكرامة لا تكون إلا للتكريم؟! بل قد تكون أعمّ. وتسميتُها بهذا الاسم شيءٌ أنتم اخترعتموه، وإلا فهي أعمّ.

من هنا فالأصحّ في الجواب عن دليل المعتزلي هنا أن يقال: إنّه يجوز ظهور المعاجز على مطلق الصادقين لأغراض يعلمها الله ونعلم بعضها، لكنّ هذا الإمكان لا يساوق الوجوب، والوقوع خير دليل على عدم المساوقة هنا، وإلا لظهرت المعاجز من كثير من الصادقين، وعليه فيجوز ظهورها إلى حدّ لا يوجب خروج المعجز عن الإعجاز بسبب كثرته، كما تقدّم في الجواب عن الدليل الأوّل، أو نقول: مهما كثرت المعاجز فإنّ معجزة النبيّ تظلّ متميّزة وهو كونها أتت مقترنةً بدعوى النبوّة، كما تقدّم في جواب الدليل الثالث والرابع هنا، فراجع، فالأجوبة المتقدّمة كافية ـ لو صحّت في نفسها ـ للجواب عن هذا الدليل الخامس.

المحور الثاني: العلاقة بين الكرامة وصاحبها أو النزاع السلفي ـ الصوفي

يحتلّ هذا الموضوع حيّزاً من الاهتمام في هذا الوسط، فهل صدور خارق العادة على يد شخص يُرشِد لسلامة مسلكه ولو في الجملة، أو لا؟

من الواضح ضمن تاريخ وأدبيّات المتصوّفة أنّهم يستعينون بمثل هذه الكرامات كي يؤكّدوا سلامة منهجهم سواء بلغةٍ صريحة أو ضمنيّة، وهذا أمر واضح كذلك في الثقافة الشيعيّة الإماميّة، فعمليّة الربط هذه تعني أنّ الخارق للعادة نوعُ إشارة صالحة لمكانة صاحبه. وينقل السُّبكي (771هـ) كلاماً للقاضي شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني شارح المحصول (688هـ)، وهو: «قال له مرّة بعض الطلبة: يا سيّدي أيصحّ أنّ في هذه الأمّة من يمشي على الماء ويطير في الهواء؟ فقال: يا بنيّ هذه الأمة أكرمها الله بنبيّها ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فأنف عن أوليائها مقامَ النبوّة والرسالة وأثبت ما شئت من الخوارق»([32]).

يظهر من نقّاد المتصوّفة وبخاصّة في الوسط السلفي نوع من التفكير العكسي هنا، فهم يحاولون قلب المعيار، وذلك أنّهم يعتبرون أنّ الكرامة ـ بما لها من معطى إيجابيّ ـ إنّما تصبح كرامةً عندما تصدر من شخصٍ هو وليٌّ حقيقي لله سبحانه، وإلا فلن تكون كرامة، ومعنى هذا الكلام أنّنا لكي نطلق على خارق العادة أنّه كرامة، ثمّ نوظّف صدوره على يد شخص لمصالح أيديولوجيّة، علينا في البداية إثبات سلامة فكر وسلوك ذلك الشخص، ثمّ إطلاق وصف الكرامة على ما جرى على يديه أو في حقّه، وبهذه الطريقة يستبعد العديدُ من نقّاد المتصوّفة هنا ظاهرة كرامات شيوخ الصوفيّة، انطلاقاً من أنّ المتصوّفة يعانون من انحرافات عقديّة من جهة، وسلوكيّة من جهة أخرى؛ كونهم لا ينضبطون لقواعد الشرع ومتطلّبات السنّة النبويّة، بل يعاني مذهبهم من الابتداع.

يبرّر نقّاد الصوفيّة وجهة نظرهم هذه بالآية القرآنية التي اعتبرت بمثابة شاهد على موضوع الكرامات، وذلك عبر ترتيب منطقي على الشكل الآتي:

1 ـ إنّ الكرامة عبارة عن خارق العادة الذي يجريه الله على يد الصالحين والأولياء.

2 ـ إنّ الصالحين والأولياء بيّنهم القرآن الكريم في قوله: ]أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا..[، فالإيمان، وهو يعني سلامة العقيدة، والتقوى، وهي تعني سلامة السلوك وموافقته للكتاب والسنّة والشرع الحنيف، هما عنوان الوليّ.

3 ـ إذا صدر خارق العادة من شخص فإن صَدَقَ عليه عنوان الوليّ من خلال العنصرين المشار إليهما، فهي كرامة، وإلا فليست كرامة، بل ربما تكون استدراجاً؛ لأنّ المفروض أنّ الكرامة قد أُخذ في تعريفها صدورها من الوليّ الصالح. وهنا يُنقل عن الشافعي قوله: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغترّوا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنّة»([33]).

وبهذا قلب نقّاد الصوفية المشهد تماماً، وسحبوا البساط من تحت أقدامهم؛ فوظّفوا ببراعة تقسيمات خوارق العادة التي قدّمت لحلّ مثل هذه المشكلة.

لكنّ المؤاخذة التي تأتي هنا تكمن في أنّه كيف نوفّق بين دلالة المعجز على نبوّة النبيّ بلا حاجة للتأكّد من كونه نبيّاً بشكلٍ مسبق، وبين عدم دلالة الكرامة على صلاح حال صاحبها؟! فإذا كنّا بحاجة لمعرفة أنّها كرامة للتأكّد مسبقاً من ولاية صاحبها، فهذا يعني أنّنا لكي نتأكّد من كون ما صدر على يد مدّعي النبوة هو معجزة ـ بالمعنى المصطلح الخاصّ ـ لا بدّ مسبقاً أن نتأكّد أنّه نبيّ؛ لأنّ المعاجز لا تأتي إلا على يد الأنبياء! ولو قيل بأنّ المعجزة تكون معجزةً بمحض ادّعاء النبوّة، فإنّ الصوفي يمكنه أن يعتبر الكرامة كذلك بمحض ادّعاء الولاية، فلماذا تجرّ الباء هناك ولا تجرّ هنا؟! هذا هو السؤال. وربما يكون مؤشراً بنحو الآية في الفهم العقلائي العام أنّ صدور خارق العادة على يد شخص كاشف عن سلامة معيّنة فيه ومنزلة إلهيّة خاصّة، ولهذا نجد أنّ المسيحيّة في جمهورها تؤمن بكرامات الأولياء والقدّيسين إيماناً عميقاً جدّاً، وتراه مؤشّر صلاحهم وعلوّ درجاتهم ومكانتهم، وعلى هذا الأساس يأتي التطويب في الكنيسة الكاثوليكيّة (ويعني التكريم في روحه) عبر إثبات معجزة للقدّيس أو معجزتين، فيطوّب قديساً، ويصبح طوباويّاً، ولهذا ينتقد كثيرون بعض تطويبات الكنيسة لأشخاص رحلوا ـ مثل يوحنا بولس الثاني ـ انطلاقاً من أنّهم غير صالحين، بل وقعوا في أخطاء فادحة في حياتهم.

وهنا نستعيد ما أشرنا له سابقاً من أنّ فكرة تنويع الخوارق التي استخدمها علماء الكلام وغيرهم، إنّما تأتي مسوقةً لمحاولة تفادي مثل هذه المشاكل هنا، فانتبه جيّداً.

المحور الثالث: الكرامات بين الخطّ الديني والخطّ العِلموي

لا أريد الإطالة في هذا الموضوع هنا؛ لأنّه في الحقيقة غير مرتبط بمسألة الكرامات بنفسها، بل هو مرتبط بكليّة موضوع الخارق للعادة، ومن ثمّ فهو متصل أوّلياً بالمعجزة، ولا نريد الخوض في قضيّة المعجزة هنا.

لكن وباختصارٍ شديد، فإنّ التيار العِلموي/Scientism (وأستخدم العلموية للإشارة للمذهب لا للتحقير كما هي أحد أوجه استعمال هذه التفعيلة) يعتبر أنّ المنهج الوحيد للوصول إلى معرفة علميّة صحيحة هو المنهج العلمي بالمعنى الأخصّ، أي المنهج التجريبي، وأنّ أيّ منهج آخر لا يعدو أن يكون مجرّد كلام فارغ أو أساطير مضلّلة، وأنّ البشريّة يجب أن تعبر مرحلة العصر الأسطوري لمرحلة العصر العلمي. وبناءً عليه فالمسطرة العلمية التي يؤمن بها هذا التيّار لا تولي اعتباراً للمعجزة أو الكرامة إطلاقاً. وتُعتبر "الوضعيّة المنطقيّة" التي ظهرت في ألمانيا والنمسا وغيرهما في القرن العشرين من أكثر فئات هذا التيار تشدّداً، حتى أنّها استبعدت العلوم الإنسانيّة من دائرة "العلم"، وكثيرون اليوم ينتمون إلى هذا التيّار ـ أو متأثرون به ـ في تناولهم لهذه القضيّة وغيرها من حيث شعروا أو لم يشعروا.

وطبعاً، يجب تمييز العِلموية عن العلمولوجيا أو السَّيَنْتُولوجيا (Scinetology)، والتي يعبّر عنها أحياناً بالكنيسة العلماوية، والتي تعتبر بمثابة ديانة أو كنيسة أو رؤية فلسفيّة دينيّة تقوم على مبادئ مثل مَكننة الإنسان والتحكّم بإرادته كتحكّمنا نحن بالآلة، وقد اشتهر من بين أنصار هذه الفلسفة الدينيّة بعض مشاهير العالم (حتى سُمّيت كنيسة المشاهير) مثل توم كروز وجون ترافولتا، وتعتبر حركة منتَقَدة غربيّاً كونها تنتهي إلى المساس بحريّة الأفراد والإيصال ـ من وجهة نظر خصومها ـ إلى نمط من الدكتاتوريّة واستغلال الآخرين، حتى أنّها ما تزال محظورة في بعض الدول مثل بريطانيا حسبما أظنّ، ورفعت قضايا مالية وغيرها ضدّها في غير بلدٍ مثل الولايات المتحدة الأميركيّة وفرنسا.

في المقابل، يرى الخطّ الديني أنّ تصور المنهج العِلموي الذي يجعل العلم الحديث معياراً للحقّ والباطل في كلّ الأمور، هو في نفسه غير صحيح؛ بل في داخله مجموعة من الكليّات والفرضيات المسبقة التي لا تعدو كونها مما يستحيل إثباته بالمنهج العلمي نفسه، وأنّه يوصلنا إلى ما يعرف تارة بأيديولوجيا العلم والتي تفضي بنا إلى ديكتاتوريّة في المعرفة، وميتافيزيقيات العلم تارةً أخرى، في حين أنّ العِلمويين أنفسهم يشيّدون بناء العلم على نقد الميتافيزيقيا! بل إنّ لغة العِلمويّة هي لغة أيديولوجيّة بامتياز، في الوقت الذي تدّعي فيه أنّها تحارب الأيديولوجيّات والتعليب الفكري.

يرى الفكر الديني أنّ العالم ليس هو ما نراه، بل نحن نرى وجهاً واحداً من هذه العملة ذات الوجهين، وأنّ الوجه الثاني هو الوجه الغيبي، وأنّه أكثر عمقاً وسعة من هذا الوجه الذي نراه، ولهذا يعدّ الإيمان بالغيب أسّ أساس العقل الديني، كما شرحت ذلك نصوصٌ قرآنيّة كثيرة، منها ما جاء في مطلع سورة البقرة. بل يرى تيّار واسع في العقل الديني أنّ المعاجز بكلّ أنواعها هي قواعد قانونيّة طبيعيّة غير مكتشفة، وأنّه يمكن استخدامها لتحقيق ما نسمّيه بالمعاجز، وإلا فكلّ الظواهر المحيطة بنا هي معاجز، غاية الأمر أنّ بعضها اعتدنا عليه فتصوّرناه عاديّاً وبعضها لم نعتد عليه، وأنّه لا يوجد في كلّ أنواع المعاجز خرق لقوانين الطبيعة، فضلاً عن قوانين الوجود الصارمة، وربما لهذا ابتكر العقل الكلامي الإسلامي مفردة "العادة"، فليس هناك خرقٌ إلا لما اعتدنا عليه، وإن كان ظهور هذه المفردة قد تُفرض له مبرّرات أخرى قابلة للتحليل بما لا يسعه المجال هنا.

ولا يكتفي التيّار الديني بمعارضة العِلموية في المنهج وإثبات الوجه الغيبي الآخر في الحياة، بل هو يعتبر أنّ ظاهرة الكرامات والمعاجز وإن كانت في بعض أبعادها أسطوريّةً وقصصاً مختلقة أو فهوماً وتفاسير بائسة لظواهر طبيعيّة، لكنّ الحقيقيَّ منها يمكن أن نفهمه بمثابة إشارات إلهيّة للناس لتذكيرهم بالوجه الآخر للعالم وإعادة ربطهم بالغيب، انطلاقاً من أنّ جذور الإنسان ترجع لذلك العالم. فهي تظهر القدرة الإلهيّة وتقوّي مقام الأنبياء الذين يواليهم هؤلاء الأولياء.

في هذا السياق ظهر في القرن الرابع الهجري ـ وربما قبله ـ ظاهرة عُرفت لاحقاً بعنوان "تبرير أو تعليل الكرامات" والمقصود بذلك الجواب عن السؤال الآتي: أساساً لماذا يجب أن تكون هناك كرامات للأولياء والصالحين وشيوخ الصوفية وأئمّة المذاهب؟ ما الذي يدفع لاعتقادٍ من هذا القبيل يجرّنا جرّاً نحو ضرورة وجود ذلك؟ هل حدث شيء دفعهم للتسابق على ادّعاء الكرامات أو ثمّة تبرير ديني معقول لهذه الظاهرة يرجع لمعطيات دينيّة؟

للجواب عن هذه الأسئلة وبالتفتيش في نصوص المذاهب الإسلاميّة ـ خصوصاً الشيعة منهم والمتصوّفة وقصص علمائهم ـ نجد مجموعة عناصر، أعتقد بأنّها عُرفت أوّلاً بتراكم التجربة بالنسبة إليهم على المستوى النفسي والاجتماعي، أكثر من مجرّد الفرضيّات الذهنيّة:

1 ـ الإمداد الغيبي القائم على مبدأ حماية الله للمؤمنين، فيجري لهم كرامة تخلّصهم من سجّان أو من قتل ظالم أو تعطيهم النصر في حرب أو غير ذلك.

2 ـ الابتلاء، بمعنى ابتلاء الله للناس عبر استدراج شخص ضالّ لإظهار كرامات على يديه، وهو ما كان يسمّيه فريد الدين العطار النيسابوري (618هـ) بالكرامات الشيطانيّة.

3 ـ الإمداد الروحي عبر منح الله لصاحب الكرامة طمأنينة روحيّة وإعادته إلى جادّة الصواب، وكما ينقل في بعض الأدبيّات العرفانية بأنّ «الأولياء يحتجّون بالكرامات على أنفسهم لتصلح وعلى قلوبهم لتطمئنّ»، ويشبّهون ذلك بقصّة إبراهيم والطيور.

4 ـ رفع مستوى العلم واليقين، فالكرامات لا تقف عند حدود الخوارق الكاشفة عن القدرة الإلهيّة، بل جزء رئيس منها مرتبطٌ بالمعرفة وكشف الحقّ ورؤية الحقائق، ولهذا نجد إمامَ الصوفيّة القُشيريَّ (465هـ) يعتبر أنّ الكرامات من وسائل قوّة اليقين وزيادة العلم، فتكون الكرامة وسيلة لمزيد فهم لهم للفعل الإلهي ولأسرار الخليقة.

5 ـ تقوية موقع الصالحين في الأمّة، فبجريان الكرامات على أيديهم يصبح للصالحين موقع ونفوذ روحي في الناس، وهو غرض معنوي مهمّ للعناية الإلهيّة، بل كون الكرامة من وسائل الإثبات يتعدّى عند العرفاء دائرة علاقة الناس بالكرامة وصاحبها لدائرة علاقة صاحب الكرامة بصحّة مسلكه، كما يقول القشيري أيضاً. بل ابن عربي (638هـ) يرى أنّ ظهور الكرامات على يد السالك محفّز إضافي له ولطفٌ من الله به، لكي يستمرّ ويجدّ في طريق السير والسلوك، فهي أشبه بهدايا وجوائز يحظى بها في الطريق فتزيد من قوّته وحماسه.

بل أيضاً ينقل الشاعر الصوفي عبد الرحمن الجامي (898هـ) أنّ الكرامات تخلق في نفوس الناس العاديين الحماس للسير والسلوك واتّباع طريق الله، فهي عناصر جذب بسبب تميّزها وقوّة الإبهار التي فيها.

6 ـ مظهر لظهور القدرة الإلهيّة ورؤية الناس أو معرفتهم بذلك هو نوع من الإشارات الإلهيّة لتأكيد الحضور الإلهي بين الناس، فكما الموت يذكّر الناس العاديين بالله والآخرة، وكذا المرض، ها هي الكرامات تقوم بدورٍ من هذا القبيل.

ويعتبر الفكر الديني اليوم أنّه إذا لم يمكن إثبات الكرامات فلا أقلّ من أنّه يمكن تبريرها عبر مثل هذه الأمور، وكفى بها فائدة.

طبعاً في المقابل يعتبر منكرو الكرامات أنّها ذات مصالح غير أخلاقيّة أحياناً، مثل الكذب على الناس بهدف السيطرة على نفوسهم والتحكّم بقراراتهم، والسعي لتحصيل مكانة اجتماعيّة، والسعي لتحصيل أموال، وغير ذلك.

إذن، يمكن تلخيص النزاع بين المثبتين للكرامات والمنكرين لها من العِلمويين في الآتي:

أوّلاً: في البنية المنهجية الفلسفية في كيفيّة التعامل مع ظواهر الوجود، ومنها الكرامات.

ثانياً: يرى التيّار الديني المثبت لظاهرة الكرامات أنّ فيها مردودات إيجابيّة على المستوي الروحي والنفسي والاجتماعي وإن كان لها ما يترافق معها من سلبيات ومفاسد هنا أو هناك، من نوع استغلال بعض الناس عنوان الكرامات كذباً وزوراً.

المحور الرابع: كيفيّة إثبات الكرامات

هذا الموضوع ربما يكون أكثر الموضوعات ابتلاءً بين الناس، فنحن نجد كثرة هائلة في ادّعاء كراماتٍ هنا وهناك حصلت لفلان أو فلانة، فكيف هو منهج التعامل معها؟

1 ـ مناهج في التعامل مع قصص الكرامات

يوجد هنا العديد من مناهج التعامل مع قصص الكرامات في التراث الإسلامي وغير الإسلامي، وأبرزها خمسة:

المنهج الأوّل: وهو المنهج الشهودي، بمعنى انكشاف واقع الكرامات لك عبر الشهود الصوفي، وهذا لا يحصل إلا لبعض الناس القليلين.

المنهج الثاني: المنهج الإيماني التعبدي، وهو الذي يرى أنّنا إذا لم تثبت قصص الكرامات لدينا، فعلى الأقلّ لا ينبغي إنكارها، وأنّ هذا النوع من العلاقة الإيمانية يستدعي من المؤمن اتخاذ مواقف تربويّة في نفسه ـ مثل عدم الإنكار ـ لتهيئة النفس وترطيبها لاستقبال قصّة الكرامة؛ فالإنكار نوع حاجز يصدّ عن ظاهرة الكرامات، فذلك مقتضى التعبّد والتسليم، وأيضاً الإحساس بالسعادة من سماع خبر الكرامة أو قراءته؛ لأنّ الخبر حتى لو لم تتأكّد من صدقه فهو في النهاية يحكي عن إشارات إلهيّة في حياة البشر، كما يقول عبد الرحمن الجامي.

المنهج الثالث: المنهج العلمي، وهنا يطرح بعضٌ إمكانية توظيف بعض العلوم في تفسير ظواهر الكرامات، وهو منهج قالوا بأنّه يمكن تطبيقه في بعض المواضع، من نوع العلوم العصبيّة وعلم النفس وغيرها، بما يفسّر ظاهرةً استثنائيّة حصلت مع شخص، فتكون استثنائيّتها كرامة له، وفي الوقت عينه هي ظاهرة طبيعيّة قابلة للتفسير، فهو منهج متصالح مع مبدأ الكرامة ولا ينفيها، فيكون مفارقاً للمذهب العِلموي الذي تقدّم ذكره.

هذه المناهج الثلاثة تشترك في كونها مناهج واقعيّة بمعنى أنّها تؤمن بواقعيّة الكرامات وأنّها أمور حدثت في الخارج العيني، ومن المعروف أنّ النزعة الواقعيّة عادت للظهور في أوروبا بعد النزعة الرومنطقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي اعتبرت بمثابة نزعة ناقدة للحداثة وتأليه العقل. ويصنّف الكثير من الفلاسفة ومعهم العرفاء ضمن الموافقين على واقعيّة الكرامات، مثل: ابن سينا (428هـ) في النمط العاشر من الإشارات، وهو ممّن حلّل ميكانيزم وعلّة وكيفيّة ظهور الكرامات على يد الأولياء، تماماً كما فعل في تحليل ظاهرة الوحي. وكذلك شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي (587هـ)، والملا صدرا (1050هـ) وعشرات غيرهم، بمن في ذلك ابن خلدون (808هـ) المعروف بقراءاته النقديّة للتصوّف والتاريخ معاً، حتى أنّ ابن عربي يُعدّ إرثه الفكري مليئاً بحكايا كرامات الصوفيّة التي يقسّمها إلى كرامات حسيّة يمكن التثبّت منها بالحواسّ، ومعنويّة لا يمكن أن يعرفها إلا الصوفي؛ لأنّها في عالم المعنى لا في عالم الحسّ، بما يلتقي مع النوع الأوّل من المناهج الثلاثة المشار إليها آنفاً.

ويقسّم المؤمنون بواقعيّة الكرامات ـ وكثيرٌ منهم يعتبرها مواهب إلهيّة وليست مكاسب بشريّة ـ هذه الكرامات إلى أنواع أو طبقات تصل لخمس وعشرين طبقة، حسب تعبير أو تصنيف تاج الدين السُّبكي (771هـ) في كتابه "طبقات الشافعيّة الكبرى"، مثل: طيّ الأرض، وطيّ الزمان، والعلم بالمستقبل، والعلم بما في نفوس الآخرين، والتحكّم بالحيوانات المفترسة، وتحويل المواد العادية كالتراب إلى ذهب والماس، والعبور من الحائط، وشفاء المرضى، وتأخير موت بعض الناس، والموت الاختياري، وعدم الأكل ولا الشرب ولا النوم لفترات زمنيّة طويلة جداً، والتصرّف بالأشياء وغير ذلك كثير.. مما ينقل عن عرفاء ومتصوّفة مثل أبي سعيد أبو الخير (440هـ) وجلال الدين الرومي (672هـ) وغيرهما، فضلاً عن أئمّة أهل البيت النبويّ شيعيّاً في حياتهم وبعد مماتهم، حتى أنّ الكرامات في الفضاء الإمامي تعتبر رمزاً لأهل البيت وأنصارهم، وقليل منهم من يولي أهميّة لكرامات الآخرين، عدا من ينزع نزعةً عرفانيّة منهم.

المنهج الرابع: المنهج الأدبي، وهو يعتبر قصص الكرامات مظاهر أدبية فنيّة، وينقسم إلى أقسام أبرزها:

أ ـ المنهج الأسطوري الأدبي، بمعنى اعتبار هذه القصص برمّتها نوعاً من الأمور التي لا نتعامل معها على أنّها واقعيّة ولا على أنّها غير واقعيّة، بل هي ترمز لمفاهيم وصور ذهنية وتترك تأثيراً على بناء الوعي عند الناس، فالشعوب تعبّر عن المفاهيم والمقولات من خلالها لا أكثر، فلا يهمّ ما إذا كان لها ما بإزاء معلوم في الخارج أو لا، ولكن بالتأكيد لها ما بإزاء معلوم في نظام المفاهيم المجتمعيّة. فهذا المنهج يعيد توجيه هذه القصص لتكون صياغةً وتعبيراً عن النظام المفاهيمي للمجتمع. ويعزّز هؤلاء موقفهم بأنّ الكثير من قصص الكرامات لها قصص شبيهة في التراث الشرقي القديم. فبعض قصص الكرامات أشبه برموز تحكي عن الرغبة في التحرّر من قيود المادّة، أو عشق تفوّق الإنسان على الطبيعة، وتحوّل التراب لذهب حكاية أسطوريّة عن أزمة الفقر وتحدّياته، وهكذا. ولذا فهذا المنهج لا يتعامل مع الكرامات على أساس الإيمان بواقعيتها أو عدم واقعيتها وإنّما يجعلها في سياق أسطوري ليحلّلها وفق الثقافة التي ولدت الكرامة فيها، فهو لا يكذّب الكرامات بقدر ما يؤولها ويحلّلها.

ب ـ المنهج السوريالي (المافوق واقعي) الأدبي، وهو الذي يرى أنّ الذين صاغوا ونقلوا هذه الكرامات هم في الحقيقة أدباء معلّمون كانوا يريدون من خلال هذه القصص أن يوصلوا تعاليمهم للناس، وعبر خلاقيّتهم الذهنيّة المافوق واقعيّة تمّت صياغة كلّ هذا الكمّ من القصص، فهذه القصص لا تخضع لمنطق التفكير العقلاني، بل هي تنبع مما فوق العقل أو فقل من العقل الباطن اللاواعي، ولا يهمّها الواقع العيني، وتهدف لإيصال رسالة معيّنة عبر طرق غريبة غير معتادة.

هذا التحليل يرفضه كلّ الموافقين على ظاهرة الكرامات تقريباً، حتى أنّ فريد الدين العطار النيسابوري في كتابه "تذكرة الأولياء" ـ وهو كتاب عرفاني يشرح فيه أحوال 72 من الأولياء، بدءاً من جعفر الصادق وانتهاءً بأبي منصور الحلاج ـ يعتبر أنّ الكرامات أمور واقعيّة، ومن كثرتها لا حاجة لبيان أسانيدها. فهذه القصص تشير لوقائع محدّدة حصلت، ولا ننظر إليها من منظار حصري أدبي أسطوري أو رمزيّ أو سرياليّ.

وبالمناسبة فهناك وجهة نظر تعتبر أنّ هذا المنهج السوريالي في فهم الخوارق كان له وجود في القرنين الرابع والخامس الهجريّين، وأنّ الغزالي (505هـ) في بعض كتبه انتقد هذا المنهج. وقد عبّر الشيخ المطهري في بعض كتبه بأنّ هذا الفريق ينكر الخوارق ولكن بطريقة مؤدّبة في مقابل الفريق الذي يُنكر وقوع الخوارق بطريقة فظّة وصلفة ويراها خرافات.. بل بعضهم يعتبر أنّ الكثير من قصص الكرامات التي يحكيها أصحابها وقعت معهم لكن في فضاءٍ ذهني، وليس في الواقع الخارجي، وأنّهم نوع من الأشخاص يندمجون كثيراً في فضاءاتهم الذهنيّة والنفسيّة، فيرون ما لا يراه الآخرون، ويمكن التعبير عن هذا المنهج بالمنهج النفسي الباطني.

المنهج الخامس: وهو المنهج النقدي التاريخي أو الواقعي، وهو يضمّ كلّ من ينكر الكرامات إمكاناً أو وقوعاً (وأحياناً من ينكر غالبها)، بمعنى أنّه يعتبر أنّ كلّ هذه القصص ـ حتى لو قلنا بإمكان الكرامة ـ هي أكاذيب وخزعبلات صُنعت لأهداف ومصالح ـ حقّة أو باطلة ـ لا غير، كما نجد مثل عبد الرحمن ابن الجوزي (597هـ) صاحب كتاب "تلبيس إبليس" كثيراً ما يتحدّث عن ذلك فيما يتعلّق بكرامات الصوفية، بل إنّ إشاراتٍ لدى بعض الصوفيّة كالقشيري تؤكّد أنّ بعض القصص مختَلَقة لأهداف شيطانيّة. ويعتبر الدكتور حسن حنفي([34]) أنّ الحركة الإصلاحيّة الدينيّة الحديثة اقتربت من التفكير النقدي للكرامات تارةً من جهة نفيها ضرورة الإيمان بالكرامات التي يبدو كأنّها جاءت في سياق مجابهة ثقافة مجتمعيّة إسلامية بضرورة الإيمان بالكرامات ونبذ من ينكرها كما يظهر من الشيخ محمّد عبده (1905م)، وأخرى من جهة ما لاحظته من تمازج الكرامات عند القبور مع مسلكياتٍ شركيّة كما يراه محمد رشيد رضا (1935م).

وفي هذا الصدد ربّما يناسب أن نستطرف حكايتين نقلهما الخطيب البغدادي تكمن الخصوصيّة في نقلهما ـ مع صرف النظر عن إثبات وقوعهما التاريخي ـ أنّهما وقعتا بين أهمّ رموز التيّارات المتنازعة حول الكرامات، وهم: الحسين بن منصور الحلّاج الصوفي وأبو سهل النوبختي الشيعي وأبو علي الجبّائي المعتزلي.

الحكاية الأولى: قال البغدادي: أخبرنا عليّ بن أبي علي، عن أبي الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، أنّ الحسين بن منصور الحلاج لما قدم بغداد يدعو، استغوى كثيراً من الناس والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى لدخوله من طريقهم، فراسل أبا سهل بن نوبخت يستغويه، وكان أبو سهل من بينهم مثقّفاً فَهِماً فَطِناً، فقال أبو سهل لرسوله: هذه المعجزات التي يظهرها قد تأتي فيها الحيل، ولكن أنا رجل غَزِل ولا لذّة لي أكبر من النساء وخلوتي بهنّ، وأنا مبتلى بالصلع حتّى أنّي أطول قحفي وآخذ به إلى جبيني وأشدّه بالعمامة، واحتال فيه بحيل، ومبتلى بالخضاب لستر المشيب، فإن جعل لي شعراً ورَدّ لحيتي سوداء بلا خضاب آمنت بما يدعوني إليه كائناً ما كان إن شاء. قلت: إنّه باب الإمام، وإن شاء الإمام وإن شاء قلت: إنّه النبي، وإن شاء قلت: إنّه الله. قال: فلمّا سمع الحلّاج جوابه أيس منه وكفّ عنه. قال أبو الحسن: وكان الحلّاج يدعو كلّ قوم إلى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أبو سهل على حسب ما يستبْله طائفة طائفة.

الحكاية الثانية: قال: وأخبرني جماعة من أصحابنا أنّه لما افتتن الناس بالأهواز وكورها بالحلّاج وما يخرجه لهم من الأطعمة والأشربة في غير حينها، والدراهم التي سمّاها دراهم القدرة، حُدّث أبو علي الجبائي بذلك فقال لهم: هذه الأشياء محفوظة في منازل يمكن الحيل فيها، ولكن أدخلوه بيتاً من بيوتكم لا من منزله هو وكلّفوه أن يخرج منه جرزتين شوكاً فإن فعل فصدّقوه. فبلغ الحلّاج قوله وأنّ قوماً قد عملوا على ذلك فخرج عن الأهواز([35]).

لقد أبدى الفريق الناقد لواقعيّة الكرامات عدّة مبرّرات لجعلها واختلاقها، ومن أبرزها الآتي:

1 ـ الاعتقاد بأنّ اختلاق الكرامات يمكنه أن يساعد في تقوية إيمان الناس بالأئمّة والأولياء، تماماً كما كانت المعاجز مما يقوّي ويثبّت إيمان الناس بالأنبياء، فحيث لا تضرّ الكرامة بالنبوّة فهي سبيل خيرٍ إذا اختلقناها.

وهذه الفكرة بنفسها يتحمّس لها الناقلون للكرامات غير الثابتة بالمنهج التاريخي التثبّتي، فيقولون بأنّ الأفضل أن ننتهج في هذا الموضوع مسلك التسامح في أدلّة السنن؛ إذ الفوائد الراجعة هنا على عوام الناس كبيرة، والأضرار ـ لو كانت ـ قليلة جداً، فلا داعي للتشدّد في التثبّت من وقوع هذه الكرامة أو تلك.

2 ـ الاعتقاد بأنّ اختلاق الكرامات يمكنه أن يُعلي من شأن الشيخ أو الإمام، لهذا يقوم الكثير من التلامذة أو المحيطين بالعلماء أو شيوخ الصوفيّة أو أئمّة الدين والمذهب باختلاق كرامات لهم تعبيراً عن ردّ جميلهم، وكأنّ ذلك هو ردّ فعل عاطفي لإبراز تقديرهم لهم وحبّهم، وهذا موضوع يمكن أن يُدرس على مستوى التحليل النفسي، فكثير من الناس تحبّ نسبة الكرامات لمشايخها أو علمائها انطلاقاً من إحساسٍ ما بالوفاء لهم عبر ذلك.

3 ـ ظاهرة التنافس، إذ بين المؤمنين بالكرامات يوجد حالة من التنافس لتعظيم هذا الشيخ أو الإمام أو العالم، انطلاقاً من معطيات تاريخيّة تقول بأنّ هذه الظاهرة كانت موجودة بين مريدي مشايخ الصوفيّة المختلفين، فيتمّ اختلاق القصص بهدف الانتصار لإمامه أو شيخه أو عالمه، بما يعبّر عن محاولة تأييد مسلكه على حساب مسالك الآخرين.

4 ـ يعتبر بعض النقّاد أنّ دراسة تاريخ الكرامات بين المسلمين، وبخاصّة في الوسط الصوفي والمذهبي، يؤكّد لنا أنّه كلّما مرّ الزمان ازداد معدّل قصص الكرامات ونسبتها، بل وطبيعة مضمونها، وهذه نقطة بالغة الأهميّة، إذ يلاحظ هؤلاء أنّه بدخول المسلمين في العصر السلجوقي أواسطَ القرن الخامس الهجري، بدأت الانهيارات المتتالية، وصولاً لسقوط الدولة العباسيّة، يصاحب ذلك بداية مستوى من انحطاط العلوم العقليّة أو شبه العقلية مثل علم الكلام والفلسفة وأصول الفقه، فضلاً عن العلوم الطبيعيّة، وهنا لاحظوا أنّ كميّة الكرامات المنسوبة لأحياء أو لأموات أصبحت هائلة قياساً بالعصور المتقدّمة، كما أنّ المقارنة بين نوعيّة الكرامات يؤكّد أنّ كرامات المتقدّمين كانت تحمل رسائل معنويّة كما هي إشارات القرآن للمعاجز، بينما الكرامات التي جاءت لاحقاً عن المتقدّمين أو المتأخّرين باتت أقرب للتهريج دون حمل رسالةٍ ما، وذلك نتيجةً لرداءة المرحلة التي خرج منها هذا النوع من الكرامات.

2 ـ مراحل التثبّت من الكرامات

هناك كتب كثيرة تتبّعت الأحداث التي تقع مع الأولياء والأئمّة أو عند قبورهم، سواء عند الصوفيّة أم الشيعة أم السنّة، لكنّ أغلب ـ وربما جميع ـ هذه الكتب تقدّم الموادّ الخام، بمعنى أنّها تذكر القصّة التي حصلت نقلاً عن مصدرها، فليست هذه الكتب مما يقوم بتحليل الموادّ القصصية المنقولة ودراستها للتأكّد ممّا حصل أو للتأكّد من نسبة ما حصل إلى صاحب القبر أو إلى الشخص الفلاني، وهذا ما يفرض ـ للتثبّت من الكرامة سابقاً أو الآن ـ السير ضمن مراحل متعدّدة:

المرحلة الأولى: جمع القصص التي تحكي عن كرامات وقعت مع زيد أو عمرو أو عند هذا القبر الشريف أو ذاك، عند جميع الأطراف، فقراءة حادثة واحدة منفصلة عن سلسلة هائلة من القصص الأخرى هو عمليّة منقوصة في موضوعٍ من هذا النوع، فالمرحلة الأولى هي مرحلة الضمّ والتجميع والترتيب.

المرحلة الثانية: التدقيق في صدقيّة القصّة ومصدرها وانسجامها الداخلي وغير ذلك، عبر ممارسة نقد تاريخي ومضموني عليها، وعلى سبيل المثال:

أ ـ يلاحظ هنا أنّ نسبة عالية من قصص الكرامات في التراث المذهبي والصوفي تارةً لا نعرف من هو الناقل لها؛ لأنّها تُصدَّر بعبارة: ونقل كذا وكذا، كما نجد هذا كثيراً خاصّة في كتب الصوفية مثل تذكرة الأولياء للعطّار وطبقات الصوفيّة، وأخرى نلاحظ اسم شخص واحد فقط يظهر في بداية القصّة، وفي كثير من الأحيان يكون اسماً غير معروف، وثالثة نلاحظ سنداً يمتدّ أبعد من ذلك قليلاً، حتى أنّه في بعض الأحيان يحاول الناقل أن يخبرنا أنّ الذين ينقلون هذه الحادثة في عرض بعضهم بعضاً هم أكثر من شخص واحد. هنا يطرح بعض إمكان إثبات هذه القصص بأخبار آحادية منفردة من هذا النوع في مقابل فكرة التواتر الإجمالي الذي إذا صحّ فلا يمكنه إثبات قصّة بعينها. هذا فضلاً عن أنّ هذه القصص قد نقل أغلبها بعد وفاة الشخص الذي وقعت له الكرامة.

ب ـ الأمر الآخر المهم هو ما يطرحه بعض المفكّرين في العصر الحديث، وهو أنّ الناقلين للقصص والوقائع الغريبة، يجب أن نلاحظ فيهم عنصرين: الداخلي والخارجي، فطبيعة موقف الناقل من الحدث الذي من هذا النوع قد يلعب دوراً في تفسير الحدث، فيختلط التفسير بالنقل، فعلى سبيل المثال، عندما يقول الراوي أو حتى الذي جرت معه الواقعة بأنّه رأى محيي الدين بن عربي في الصحراء وأنقذه من العطش، فهنا يلاحظ وجود واقعة خارجيّة حدثت وعلاقة الراوي بها هي علاقة النقل، بينما قد يكون هناك تفسير لما وقع دمجه الناقل فقدّمه لنا على أنّه جزء من الواقع الذي رآه، وهو خلعُ عنوان ابن عربي على الشخص الذي أعطاه الماء، ففي الحقيقة الناقلون لمثل هذه الوقائع يمثلون حلقة أساسيّة في التثبّت من الواقعة أو التثبّت من بعض أجزائها.

هذا الأمر يمكننا متابعته ونحن نتحقّق من ادّعاء كرامة من شخص حيّ اليوم ينقل لنا أنّها حصلت معه، فإنّ دراسة شخصيّته ونوعها يلعب دوراً في التثبّت من طبيعة نقله للحدث.

المرحلة الثالثة: إذا ثبت عدم وجود عيب في هذه القصّة أو تلك من هذه النواحي المتقدّمة، فإنّه يُصار إلى الانتقال إلى المرحلة الثالثة، وهي دراسة القصّة من زاوية ارتباطها بالشيخ أو الإمام أو العالم أو القبر أو غير ذلك؛ إذ قد تكون هذه القصّة التي تحكي عن شفاء مريض ناتجةً عن حالة نفسية تؤثر ـ علميّاً ومنطقيّاً ـ في المرض الذي يعاني منه هذا المريض الذي شُفي هناك، كأن تكون لديه مشكلة عصبيّة، ثم ونتيجة التفاعل النفسي الشديد حال الزيارة لهذا المرقد أو ذاك، يحصل حدثٌ عصبي معيّن، وهذه المرحلة من البحث تحتاج لدراسة من جانب المختصّين بعلم النفس والأعصاب والطبّ وغيرها من العلوم، شرط أن لا يستبعِد هؤلاء من البداية العنصر الغيبي في الموضوع.

ومن المناسب هنا الانتباه لأمرٍ سبق أن أشار إليه علماءٌ معاصرون وبعض المشتغلين بالبحث الفلسفي، وهو أنّ الجهاز المفاهيمي في الذهن الإنساني يلعب دوراً في خلع لباسٍ ما على صورة مسبوقة عند العقل، فمثلاً نحن نجد أنّ المسيحيين يرون في منامهم السيد المسيح أو السيدة العذراء، فيما نجد المسلم يرى رسول الله أو بعض الأئمّة، ونجد اليهودي يجد أمراً آخر. إنّ هناك تفسيراً ـ أدعو للتفكير فيه ـ لا يذهب إلى أنّ هذا الذي جاءك في المنام هو ضرب من الوهم أو أضغاث أحلام بالضرورة، وإنّما قد يكون حقيقة، ولكنّ الذهن المسيحي مشبع بصور معيّنة لشخصيات، يقوم العقل بخلعها على حالة الرؤية في المنام، فيتصوّر ما رآه أنّه المسيح ويحسّ أنّه المسيح، ولو كان شيعيّاً لربما أحسّ بأنّه المهدي المنتظر، أو لو كان سنيّاً لربما أحسّ بأنّ الذي رآه في المنام هو عمر بن الخطاب مثلاً. إنّ تسمية الأمور التي شوهدت في عالم الرؤية هي تسمية تنتمي ـ فلسفيّاً ـ إلى عالم المفاهيم والمقولات، ولا تنتمي لنفس حدث الرؤية المناميّة، وهذا أشبه بالكشف المعنوي وتفسيره، وهذا ما يفسّر انحياز المنامات هنا وهناك لمن كان الشخص نفسه على صلة أو معرفة به من قبل نتيجة العنصر التربوي. فمثلاً لو كنّا في صحراء وانقطعت بنا السبل، ثمّ جاء شخص فساعدنا، ثم لم نعد نره، فإنّ منظومة تفكيرنا المسبقة تسقط عنوان المهدي عليه إذا كنّا شيعة، أو تسقط عنوان الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه لو كنّا من بعض الصوفية أو غير ذلك، وهذا الإسقاط هو عمليّة تفسيريّة وليس جزءاً من الحدث نفسه بالضرورة، والخلط بينهما يتسبّب في الكثير من المغالطات.

ربما يقال: إنّ نفس حصول هذه الحالة النفسية عند هذا المقام أو في هذا الموقع دون حصولها في مكان آخر كافٍ له؛ إذ العبرة بالنتيجة، وهو الشفاء، فلماذا حصل له هذا التفاعل هناك دون مكانٍ آخر؟

ولكنّ هذا غير صحيح؛ وذلك لأنّ حصول مثل هذا في غير هذا المكان موجود أيضاً بكثرة، فأيّ ميزة حينئذٍ للقبر أو صاحبه على غيره؟ فعروض الحالات النفسيّة الموجبة للخروج من مشاكل عصبية مؤثرة في الأداء الوظيفي للأعضاء الجسميّة، شيءٌ يحصل كلّ يوم عند الكثير من المرضى، ومن ثمّ فإذا حصل نتيجة التصديق في هذا المرقد أو ذاك فلن يضفي أيّ قيمة علميّة جديدة.

أضف إلى ذلك أنّ حصول الشفاء نتيجة التصديق لا يعطي للواقع (القبر أو صاحبه) أيّ إضافة نوعيّة؛ لأنّ العلّة في الحقيقة ترجع للتصديق بما هو تصديق أو بما هو حالة ذهنية ونفسية باطنيّة، لا للتصديق بما هو مطابق للواقع، ولا للواقع بما هو أمرٌ مصدّقٌ به، وهذا معنى أنّه حالة نفسيّة. والتصديق بما هو تصديق أو الاعتقاد بما هو اعتقاد لو ترك أثراً على الإنسان بنفسه فلا يوجب ذلك نسبة هذا الأثر للواقع المصدّق به بالضرورة، فهذا مثل تصديقك بأنّ خلفك أسد، ثم ركضت بسرعة هائلة وقفزت عشرة أمتار في الهواء، فإنّ الفعل الاستثنائي الذي فعلته لا يُنسب إلى الأسد، بل يُنسب لحالتك النفسية، والدليل هو أنّك قد تفعل ذلك ظانّاً أنّ خلفك أسد فيما لا يكون أسدٌ البتة، فلا معنى لنسبة التأثير إلى أسدٍ غير موجود.

وهذا ما يفسّر أنّه لماذا حصلت حالة الشفاء في هذا المكان ولم تحصل في غيره، فإنّ الحالة النفسية الاعتقادية للشخص نفسه هي التي أثّرت عليه فشَفَتْه هنا، كما شفي غيره في أمكنة أخرى نراها نحن ضلالة وزيغاً عن الحقّ، فالعلاقة الحقيقيّة تكون بين ذاتنا وشفائنا، لا بين واقع معتقدنا وحالة شفائنا.

وأنا دوماً أسأل أولئك الذين لا يرون الكرامات والغرائب إلا في مجتمعهم الديني والمذهبي الخاص: بماذا يفسّرون لنا كلّ تلك الغرائب والعجائب والمنامات التي تقع خارج إطار مذهبهم أو خارج إطار دينهم؟ فها هم المسيحيون ـ على سبيل المثال ـ يشترطون في صيرورة الرجل أو المرأة قدّيساً أن تحصل له كرامة أو كرامتان، ولهم في إثبات ذلك طرق محدّدة، ولديهم ما شاء الله من القدّيسين، فهل كلّ هذه القصص كاذبة؟! ولو جمعنا قصص المسيحيّين في الكرامات لملئت الصحف والسجلات، فهل كلّها كاذبة؟! فإذا كانت كلّها كاذبة فلماذا لا نحتمل في قصصنا أنّها كلّها كاذبة؟! وإذا كان بعضها صادقاً فكيف نفسّر وقوعه لأشخاص يحكم المسلمون بأنّهم "كفّار" بالتعبير السائد؟! ما لم نرجع الأمر للإيمان القلبي بوصف الهداية حالة معنويّة، وليست تطابقَ ما في الذهن مع الخارج، كما يقول به بعض التعدّديين اليوم، فانتبه.

إنّني أعتقد بأنّ هذه القضية وأمثالها تحتاج لدراسة علميّة ـ وليس فقط عقائديّة ـ تأخذ عيّنات كثيرة من أماكن وفضاءات مختلفة من العالم، لكي ننظر لهذه الأمور بطريقة علميّة، فبعضنا يظنّ أنّ مثل هذه الأشياء لا تحدث إلا عندنا في ديننا أو مذهبنا أو طائفتنا أو جماعتنا، وكأنّها حكرٌ علينا في العالم، في حين أنّ مثل هذه الأشياء تحدث في مختلف أرجاء الأرض وبكثرة، وبعضها صادق وبعضها كاذب في النقل، فمن يريد أن يدرس بعقل علمي هذه الأشياء فعليه أخذ كلّ الفرضيات المحتملة والسعي لتأكيد فرضيّة بعينها بطرق علميّة، لا بِسُبُلٍ عاطفية تُسرع للتصديق في قصصها وتتباطأ عن التصديق في قصص غيرها دون تقديم مبرّر واضح.

ولا مانع أن تكون لهذه الظواهر أسبابٌ متعدّدة، فعلينا تمييز أنّ هذه الظاهرة أيّ من الأسباب كان سبباً لها هنا وأيّ منها كان سبباً لها هناك؟ كما ومن الممكن أن لا نصل إلى يقين قاطع بل إلى ترجيحات، وأيضاً هذا لا بأس به عندما لا يتوفّر غيره، فإنّه أيضاً يرشدنا إلى الفرضيّة الأكثر قرباً من الواقع بحسب المعطيات التي توفّرت لنا.

هذا كلّه هو ما قصدته من أنّنا بعد أن نتثبّت من وقوع هذه الحادثة هنا أو هناك، علينا دراسة احتمالاتها التفسيريّة، فإذا ترجّح احتمال تأثير العنصر الغيبي العقدي فهذا جيّد، وإلا فنذكر ما هو الراجح أو نقف لا نجزم ولا نرجّح افتراضاً على آخر، على أن يتمّ ذلك كلّه بطريقة علميّة، لا بأسلوب عاطفي متحمّس لتفسيرٍ من التفسيرات بشكل مسبق، سواء كان هذا التفسير هو ربط الحادثة بالعقيدة أم كان هذا التفسير هو فكّ الصلة بين الحادثة والعقيدة، حيث يصرّ بعضنا على أن يربط أيّ شيء باعتقاداته الدينية، وبعضنا صارت له عقدة من ربط الأمور بالعقيدة، فتراه يصعّب الأمور بحيث تصل الحالة معه إلى حدّ مفرط.

ووفقاً لمنهج الاستعانة بالعلم ومعطياته بوصفها عناصر مساعدة في الفهم المعرفي الصحيح لهذه الظواهر وأمثالها، من الممكن أيضاً أن نستعين بالعلوم الطبّية والحفريات وغيرها لدراسة ظواهر لا نملك معلومات مؤكّدة حول ارتباطها العقدي أحياناً، فمثلاً آثار القدم المعروفة والمعروضة في منطقة (قدمگاه) القريبة من مدينة مشهد في إيران، يمكن وضع هذا الأثر في يد العلماء لدراسة تاريخه، فربما ساعدت المعطيات العلمية على ترجيح أنّه يعود إلى آلاف السنين، أو إلى أنّه محفور بشكل يدوي قبل بضع سنوات مثلاً، ومن ثم فلا معنى لربطه بالإمام علي بن موسى الرضا، أو لا أقلّ ينخفض هذا الاحتمال. وهكذا الحال في مواضع كثيرة على امتداد عالمنا الإسلامي، مثل تلك الشعرة التي في إسطنبول والمنسوبة للنبيّ محمّد‘ أو تلك العصا التي وضعوها في المتحف هناك لموسى أو عمامة يحيى النبيّ.. فلماذا لا يقوم أحد ـ لا سيّما وزارات الأوقاف والآثار، والمؤسّسات الدينية ـ بخطوات علميّة جادّة في هذا الإطار، إضافة إلى المعطيات الدينيّة؟ ومتى سيدخل الفكر الديني مرحلة مرجعيّة علوم من هذا النوع، على الأقلّ مرجعيّة إبطاليّة؟

ولا أقول بأنّ ما سيقوله العلماء الطبيعيّون هو الحقّ المطلق، أو أنّهم وصلوا إلى نهايات المعرفة، حتى لا يقول لي أحد بأنّك تريد أن تضع لنا مرجعيّة العلم العلمانيّة حَكَمَاً نهائيّاً، بل غاية ما أقوله هو أنّه في نهاية المطاف سيتوفّر لدينا معطى جديد يضاف إلى سلسلة المعطيات المتوفّرة بين أيدينا للحصول على رؤية نهائيّة، فإنّ أهل هذه العلوم يعدّون من أهل الخبرة في مجال عملهم.

أنا فعلاً أدعو إلى دخول العلوم الطبيعية والإنسانيّة في الكثير من هذه الأمور، وأخذ وجهة نظر العلوم بعين الاعتبار، ومن ذلك مسألة بقاء بعض الأجساد كما هي بعد دفنها لسنين طويلة، فغالباً ما نتعامل مع هذه الظاهرة بطريقة أحاديّة، في حين من المناسب أن نراجع المعطيّات العلميّة أيضاً، فلعلّ هناك تفسيراً آخر للحدث يرجع إلى طبيعة الجسم، أو التربة، أو المنطقة، أو البيئة الجافّة، أو شديدة البرودة، أو شكل القبر الهرمي وغير ذلك، دون أن ننكر العامل الديني بوصفه أحد العوامل، ولهذا نجد هذه الظاهرة تحصل في مختلف البلدان، حتى احتفظ بعض الكاثوليك بجثث بعضٍ عندهم، وهناك الكثير من المشاهد المصوّرة لهذه الظاهرة في مختلف أرجاء العالم، وبالاستعانة بالعلوم المختلفة نضيف هذه الفرضيّات لكي يكون استنتاجنا النهائي علميّاً، ولا داعي للخوف من العلم ومعطياته هنا، وهو خوف متوقّع عند كثيرين.

إذن، فنحن أمام مراحل ثلاث لكي تصبح هذه القصص ذات مضمون علمي ومنطقي يمكن الاتّكاء عليه، وهي: مرحلة الجمع والتقصّي، ومرحلة التثبّت والتوثيق، ومرحلة التفسير والتحليل ودراسة العناصر المحتملة في أن تكون سبباً للذي حصل.

ومع الأسف، فنحن في الغالب نكتفي بالمرحلة الأولى ونترك المراحل اللاحقة، لا سيما المرحلة الثالثة، أو نتعاطى معها بطريقة غير علميّة وإنّما عاطفيّة حماسيّة. وما أقوله ليس مشكلةً خاصّة هنا أو هناك، بل هي مشكلة عامّة عند الشيعة والمتصوّفة والسنّة وغيرهم.

والنتيجة: إنّ حجر الزاوية في دخولنا فضاءً صحيّاً في مثل هذه القصص والأحداث هو:

1 ـ النظر إليها بعُدَدٍ معرفيّة متنوّعة، مستعينين بجميع العلوم ـ الدينية وغيرها ـ ذات الصلة بهذا الموضوع.

2 ـ النظر إليها بعيون عالميّة لا محليّة، وإدراك أنّ الكثير منها هو عبارة عن ظواهر منتشرة في كلّ الأرض، فعندما نفكّر بطريقة عالميّة لا محليّة سوف ندرس الأمور بشكل أفضل وأضمن.

3 ـ الحرص على سلامة المنهج، أمّا النتيجة فأيّ شيء تكون فنحن نسلّم بها، سواء كانت لصالح المعتقد الديني أم لا، فليست الحساسية التي أُبديها هنا هي من النتائج، وإنّما الحساسية من المنهج، فليلاحظ هذا الأمر.

ونخلص من هذا:

1 ـ إنّني لم أهمّش التفسير الديني لصالح التفسير العلمي أبداً، فكلّ ما في الأمر أنّ الدين يقول بوجود الكرامات، لكنّه لا يقول بأنّ هذه المفردة أو تلك كرامةٌ أو حالةٌ للغيب دورٌ فيها، فالدين لا يتدخّل في هذه المفردة أو تلك إلا عبر نصّ مباشر، كأن يقول لنا بأنّ ما حصل مع عصا موسى هو معجزة، وهناك نقول بأنّ الدين قدّم تفسيراً مباشراً للحدث وقاطعاً.

أمّا في الحالة التي نتكلّم عنها ـ وهي غالب الحالات القائمة اليوم ـ فنحن أمام ظاهرة خارجيّة لم يقل الدين فيها نصّاً مباشراً، ولم نسمع أو يصلنا من النبيّ بدليلٍ حاسم أنّ الدم الذي يخرج من شجرة قزوين المعروفة هو دم الإمام الحسين مثلاً، وأنّ هذه كرامة له، وفي هذه الحال، نحنُ أمام احتمالين هما:

الاحتمال الأوّل: أن يكون ما وقع مصداقاً خارجياً جزئياً لعنوان الكرامة العام الثابت في النصوص.

الاحتمال الثاني: أن يكون ما وقع مما لا ربط لعنوان الكرامة به، وإنّما هو مجرّد حالة عادية، لا يوجد دليلٌ على حصر تفسيرها بأنّها كرامة، وعندما يقوم العلم بتقديم تفاسيره هنا؛ فإنّ التفسير بالكرامة سيصبح احتمالاً فقط، فإذا تمكّنا من تقويته بتضييق الخناق على الفرضيّات العلميّة الأخرى، فنلغِي ما يقدّمه العلم، وإلا فلن نتمكّن من إثباته.

2 ـ قد تقول بأنّ هذا الكلام يبطل مسألة استجابة الدعاء، لكنّ الحديث عن الدعاء يجري فيه الأمر عينه أيضاً، فنحن نؤمن بأنّ الله يستجيب الدعاء، لكنّ هذا إيمانٌ بالعنوان الكلّي، وليس بالمصداق الجزئيّ، فلو فرضنا أنّ شخصاً دعا الله أن يُنجحه في الامتحانات آخر السنة الدراسيّة.. ثم نجح.. فإنّ احتمال أنّ نجاحه معلولٌ لاستجابة الله لدعائه لا يمكن الجزم به، ما لم تتقوّ المعطيات أو يخبرنا نبيٌّ أو رسولٌ بأنّ هذا النجاح كان لاستجابة الله للدعاء، ولم يكن اجتماع الدعاء مع النجاح محض صدفةٍ نسبيّة ـ وفي كلّ الأحوال المقادير بيد الله ـ إذاً فالأمر عينه نقوله في الدعاء على مستوى الصغرى والمصداق، ولم يكن كلامي أبداً عن الكبرى والمبدأ والقاعدة.

ثمّ من قال بأنّنا مطالبون باليقين المعرفي بأنّه حصلت الإجابة؟ كلّ ما في الأمر هو أنّنا مطالبون نفسيّاً بحُسن الظنّ بالله، وكلامي ليس في البُعد النفسي الذي تكفي فيه الظنون أحياناً، بل قد تكفي فيه نوعيّة المظنون، وإنّما في البُعد المعرفي للقضيّة، وقد بحثتُ بشيء من التفصيل حول قضيّة اليقين بالإجابة في النصوص الدينية ومعناها وانسجامها مع إشكاليّة عدم استجابة الله تعالى لبعض الأدعية رغم وعده بالاستجابة، وذلك في بحثي حول الاستخارة في الفقه الإسلامي([36])، وإلا فلو دعا الإنسان ربّه أن يدخله الجنّة أو يغفر له فهل يستطيع اليقين المعرفي بأنّه مغفورٌ له أو داخلٌ الجنّة لا محالة؟!

3 ـ لا أعتقد أنّه يُفهم ممّا تقدّم ترجيح احتمال غير التفسير الديني، إنّما الذي يُفهم هو عدم ترجيح الاحتمال الديني دون إبطال الترجيحات الأخرى، وهذا شيءٌ علميّ جداً ومنطقي، ويجري في ترجيح الاحتمالات الأخرى أيضاً، ولا أظنّني قلت شيئاً غريباً في المنهج.

أمّا من يدعو إلى التسامح في هذه القضايا وعدم إخضاعها للحديّة العلميّة في العلّة والمعلول، فيمكن التعليق عليه بأنّ القضيّة في جوهرها تنتمي لهذا المجال، فليست المسألة مسألةَ فهم نصّ حتى نرجع فيه إلى العرف واللغة، وإنّما هي مسألة علميّة بامتياز، ولماذا عندما تكون الأمور لصالحنا يجوز لنا التسامح في الإسناد، بينما لا يحقّ للآخرين ذلك؟! إنّني أعتقد أنّ الجميع لا يحقّ له ذلك، بل علينا أنّ نعتمد المنهج العلمي بالمعنى العام للكلمة، وأنا لا أطالب هنا باليقين البرهاني الأرسطي، بل يكفي اليقين العلمي التراكمي الاحتمالي، كما قلتُ في سياق كلامي السابق والحالي.

_______________

([1]) هذا تقرير لثلاث محاضرات ألقاها الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله، في مرفأ حوار، عبر تطبيق زووم، وذلك بتاريخ (13 ـ 20 ـ 27) ـ 12 ـ 2022م. وقد قام بكتابتها وتحريرها فضيلة الشيخ حسن الخرس، ثم راجعها الشيخ حبّ الله وأجرى عليها بعض التعديلات والإضافات.

([2]) المنقذ من التقليد 1: 403.

([3]) عدّة الأكياس 2: 29.

([4]) أصول الإيمان: 141 ـ 142.

([5]) من كبار رجال المعتزلة وكبار أصوليّي الأحناف، بصريٌّ، قضى عمره في بغداد، وهو من تلامذة القاضي عبد الجبار الذين استقلّوا بمذهبٍ منفصل عن أبي هاشم الجبائيّ وسائر المعتزلة، ولهذا انقسم المعتزلة بعده حتى القرن السابع الهجري بين البهشميّة (أبو هاشم الجبائي)، والبصريّة نسبةً إليه.

([6]) الفِصَل في الملل والأهواء والنحل 3: 144 ـ 153، طبعة دار إحياء التراث.

([7]) المحصّل: 531.

([8]) سير أعلام النبلاء 17: 355.

([9]) شرح المقاصد 5: 74 ـ 75.

([10]) أوائل المقالات: 69.

([11]) مقالات الإسلاميّين: 50 ـ 51.

([12]) بحار الأنوار 27: 31.

([13]) الظاهر أنّه يُقرأ بنحوين: آصَف بن بَرخِيا، وآصِف بن بَرخِيا، ولعلّ فتح الصاد هو الأصحّ.

([14]) تنزيه القرآن عن المطاعن: 65.

([15]) الجامع لأحكام القرآن 4: 83.

([16]) المحرّر الوجيز 4: 9.

([17]) المسامرة شرح المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة: 195.

([18]) فتح الباري 6: 339.

([19]) تفسير روح المعاني 6: 9.

([20]) شرح المقاصد 2: 204.

([21]) المغني في أبواب التوحيد والعدل 15: 241 ـ 242.

([22]) انظر: خميس بن راشد العدوي وخالد بن مبارك الوهيبي، الإيمان بين الغيب والخرافة: 179.

([23]) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 476 ـ 47.

([24]) كشف المراد، قسم الإلهيات، مع تعليقات السبحاني: 163.

([25]) توضيح المراد: 655.

([26]) حسن يوسفيان، كلام اسلامى، شرحى بر كشف المراد 2: 100 ـ 101.

([27]) شرح العقائد النَّسَفيّة: 94.

([28]) الكامل في الاستقصاء فيما بلغنا من كلام القدماء: 355 ـ 356.

([29]) المصدر نفسه: 356.

([30]) المغني 15: 234.

([31]) الكامل في الاستقصاء: 358.

([32]) طبقات الشافعيّة الكبرى 8: 102.

([33]) تفسير ابن كثير 1: 82؛ والبداية والنهاية 13: 251؛ وابن أبي العزّ الحنفي، شرح العقيدة الطحاويّة: 573.

([34]) من العقيدة إلى الثورة 4: 85 ـ 86.

([35]) تاريخ بغداد 8: 124 ـ 125.

([36]) راجع: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 50 ـ 69.